يحاول الكثيرون التبرير للأعمال الخاطئة بحجة ومن دون حجة، ويصلون في درجات التبرير إلى مستوى الإسفاف والتهتك السياسي المكشوف، ونحن في الصحافة وظيفتنا ألا نخضع لهذه التبريرات، وأن نمارس النقد والرقابة على أية جهة تحاول أن تبرر للفساد المالي والإداري، سواء كانت هذه الجهة حكومة أو برلمانا أو معارضة، لأنه ضمن هذا المنطق التبريري، يبدو أننا سنصل في النهاية إلى عدم الاعتراف بوجود قيم في السياسة، بحيث يتحول هذا المجتمع الذي قدم الكثير من التضحيات وبأثمان باهظة إلى مجتمع "لكل لاقط"، والضحية الأكثرية التي تعاني من الفقر والحرمان والتمييز والتهميش، ويبدو أنها لا تعانيه فقط على مستوى مؤسسات الدولة، وإنما تعانيه أيضا من المعارضة التي بدأت تتشكل فيها طبقة لا علاقة لها بمصالح الناس، والأدهى: أنها ترفع يافطة الدفاع عن حقوق الناس للولوج في العملية السياسية من أوسع أبوابها.
التعليق على المبلغ الذي تسلمته جمعية الوفاق من الحكومة "50 ألف دينار" أثار ضجة واسعة في الوسط السياسي، وغالبية هذه التعليقات كانت تبريرات واضحة لسلوك الوفاق الخاطئ حتى من أولئك الذين يريدون أن يؤسسوا لدولة المؤسسات والقانون، والذين يرفعون يافطة "الأزمة الدستورية" بين المعارضة والحكومة كجزء من استحقاق الصراع على الحقوق، وأسوأ هذه التبريرات، قول بعضهم: لماذا لا نتسلم مبلغا من الحكومة لدعم أنشطتنا السياسية، فأنت تقول: لا توجد مادة في قانون الجمعيات تعطي الحق للمعارضة في أن تتسلم المبالغ من الحكومة، ولكن في المقابل: لا يوجد بند يمنع من تسلم هذه المبالغ، ولن يؤثر ذلك على معارضتنا للسلطة في الأمور المختلف عليها.
هذا هو منطق المعارضة ويا للأسف، فانتفاضة التسعينات قامت لتقول إننا لنا حقوق، ويجب أن نأخذها كحقوق، وهؤلاء يريدون أخذها من البوابة الخلفية، ولا عجب في ذلك: فتسلم المبالغ ديدن البعض وقت الشدة ووقت اليسر، ويريدون أن تنطبع هذه السلوكات في ذهنية الجميع، لتصبح جزءا من السلوك العام، وربما وجدوا أنفسهم من يقومون بهذا الفعل لوحدهم، وأرادوا أن يمارسه الجميع ليكون مبررا، إلا أن القيم الدستورية التي يرفعونها يافطات سياسية، والضوابط القانونية ترفض هذا التبرير، وتعتبر أي مبلغ يخرج من المال العام الذي تديره الدولة يجب أن يكون مقيدا ببنود الموازنة العامة، أو منصوصا عليه في القوانين ذات الشأن والاختصاص.
ولو كان السكوت عن دعم الدولة لأية جهة ما من دون ضابطة قانونية دليل إيجاب بضرورة الدعم، لجاز للدولة أن تنفق مال الناس من دون ضوابط، ولما أصبح حديث الناس عن التعدي على المال العام مبررا، فأي عذر ساقه هؤلاء أقبح من ذنب ما اقترفوه حين قبلوا بهبة الحكومة من دون ضوابط قانونية تجيز لهم ذلك.
ولوضع النقاط على الحروف فيما يخص دعم الدولة للمؤسسات السياسية يجب التذكير بالآتي:
أولا: يجب التفريق بين الدعوة لوجود قانون أو مادة قانونية تلزم الحكومة بدعم المؤسسات السياسية بمبالغ محددة وضمن شروط واعتبارات موضوعية، وبين الدعوة إلى تسلم المبالغ من الحكومة من دون وجود قوانين ولا ضوابط تحكم تسلم هذه المبالغ بحجة أن تسلمها من حق الجمعيات، فعدم دعم الدولة للمؤسسات السياسية خيار خاطئ، في قبال تضييقها على جهات التبرعات الخارجية أو المحلية، ولكن تسلم هذه المبالغ من دون وجود بند في الموازنة يشير إلى ذلك، أو وجود قانون يلزم الحكومة بالدعم خطأ أفدح من الخطأ الأول، لأنه يؤسس إلى عبثية في التصرف في المال العام، وهذا ما وجدناه في إعطاء الكثير من المتنفذين هبات كثيرة، كعيدية 100 ألف دينار، ومكافأة نهاية خدمة "ربع مليون دينار"، وهذا الذي أدانته جمعية الوفاق ووقعت فيه. وبالتالي: فالدعم يجب أن يكون بعد القانون لا قبله.
ثانيا: إذا كان مطلب دعم المؤسسات السياسية الأهلية مطلبا ملحا بالنسبة إلى هذه الجمعيات، فعليهم أن يطالبوا الدولة بالآتي:
1- أن توجد مواد قانونية في قانون الجمعيات السياسية أو قانون جمعيات النفع العام تؤكد حق هذه الجمعيات في تسلم مبالغ من الدولة وفق شروط موضوعية، وبذلك: يكون حقها ثابتا بصفته حقا لا بصفته هبة من الدولة، كما يمنع الدولة من التصرف في المال العام بمزاجية، فتعطي هذا الطرف مبلغا صغيرا، وتعطي ذلك الطرف مبلغا كبيرا من دون ضوابط.
2- إذا تم إقرار مواد قانونية تلزم الدولة بدفع مبالغ إلى المؤسسات السياسية الأهلية، فينبغي عليها أن تطالب بوجود بند في موازنة الدولة خاص بدعم الدولة للمؤسسات السياسية الأهلية، على أن يراعي الشروط الموجودة في القانون المختص، وأن يقسم بند الدعم في الموازنة إلى قسمين، قسم متعلق بالأنشطة السياسية للجمعيات، وقسم متعلق بالأنشطة الانتخابية، ليكون معيار الدعم محددا، وآلية الدعم محددة، فلا يكون التصرف في هذا البند وفق هوى الحكومة ومزاجيتها.
3- نتيجة لدخول مفاعيل اقتصادية وسياسية على الخط في الاستحقاق الانتخابي العام ،2006 ما ينذر بأن يكون للمال السياسي دوره السلبي في تحريك العملية الانتخابية، فينبغي وبعيدا عن الموقف من الانتخابات النيابية المقبلة أن تستحدث مواد قانونية في قانون مباشرة الحقوق السياسية تحدد معايير الدعم الأهلي للمترشحين، ومقدار هذا الدعم بحيث لا يؤثر على تكافؤ الفرص في العملية الانتخابية، فضلا عن تأثيره على قيم وأخلاق المجتمع البحريني الذي تعود أن يحمله ضميره وكفاحه على راحتيه طوال سنين النضال، ولا يجوز اختراق هذا الضمير بشراء ذمم الناس وأصواتهم. وفي المقابل: يجب أن تتحرك الدولة للدعم المتكافئ للعملية الانتخابية والمترشحين فيها على أساس الشروط المبينة في القانون المختص، حماية للمشهد الديمقراطي في البحرين من أي تزوير أو تلاعب.
ثالثا: أثار البعض في معرض الرد على المقال المتعلق بنقد تسلم الوفاق مبلغا من الحكومة من دون ضوابط، أن الحكومة حظرت على المؤسسات السياسية الأهلية تسلم تبرعات من الخارج، وهذا يعني إمكان تسلم هذه المؤسسات "تبرعات" من الحكومة، ضمن تفسير قانوني تلفيقي لقانون الجمعيات الأهلية المتخلف، وهذا كلام عار عن الصحة جملة وتفصيلا، فالحكومة لا تتبرع للناس، وإنما تعطيهم حقوقهم بناء على ضوابط قانونية ومواد دستورية تقر لهم بهذه الحقوق، وحتى حينما تتبرع للخارج، فهي تتبرع بتخويل من الناس لا من وراء ظهورهم من خلال المؤسسة التي تمثلهم، لأن ما بين يديها هو مال عام وليس مالا خاصا، والتصرف فيه يجب أن يكون من منطلق قانوني بحت، وعلى أساس من الشفافية والوضوح، وتصرفها الخاطئ في المال العام مع وزرائها وحاشيتها يعد خطأ، ويقارب هذا الخطأ أن تتعامل مع الجهات الأهلية بالطريقة نفسها، فالخطأ خطأ ولا يجزأ.
رابعا وأخيرا: يجب التحذير من أن التعاطي التبريري والمزدوج مع قضايا التعدي على المال العام والتصرف فيه من دون أي وجه حق، من شأنه أن يضر بالقدرة الدفاعية للقوى السياسية وحتى الهجومية في الدفاع عن حقوق الناس، والأهم من ذلك: أنه يرسل الإشارة الخاطئة إلى المواطنين بأن طريق الحقوق لا يوصل إلى نتيجة، وأن الأنسب لهم هو أخذها بالطريقة الملتوية، وهذا سيضرب كل الملفات السياسية والدستورية التي تتحرك على أساسها المعارضة. فهل تقرأ المعارضة الرسالة جيدا، أم تصر على التواري وراء العناوين الملتوية في العمل السياسي؟ وهل يضيع نضال أجيال متعاقبة من أجل الحقوق وترسيخها، في قبال شهوة ظلامية تعيد قلب الموازين على أصحابها؟
العدد 870 - السبت 22 يناير 2005م الموافق 11 ذي الحجة 1425هـ