ونحن على أعتاب ما يسمى بـ "الاستحقاق الانتخابي" العراقي أزعم أن ثمة مفارقات "قاتلة" فجرتها قضية الغزو الأميركي - البريطاني للعراق، لابد أن نتوقف عندها طويلا لأنها بنظري ستجتاح العالم انطلاقا من منطقة "الشرق الأوسط الكبير" الذي أريد له على ما يبدو أن يكون مختبرا حيا لكثير من المفاهيم الجديدة خلال السنوات المقبلة.

ولعل المفارقة الأولى والأهم هي أن يجد أحد أطراف المعادلة الدولية القوي "المبرر اللامحدود لنفسه باجتياح أي بلد وتفكيكه تفكيكا كاملا كلما شعر بالحاجة إلى ذلك من دون أن يشعر بأي حرج أخلاقي لديه حتى لو اطلع العالم أجمع على كذب مزاعمه فيما بعد، إذ يكفيه فقط أن يتذرع بـ "خطر" كامن بالقوة قد يتحول إلى تهديد لقوته الفعلية"!

المفارقة الثانية والتي لا تقل أهمية عن الأولى هي الطريقة التي أريد لها أن تكون "النموذج" في نشر الديمقراطية في المجتمعات المحكومة بثقافة "الطغيان" عندما قرروا أن دورة العنف الدموية لا تشكل عائقا، بل حافزا أكيدا على إمكان تحقق تلك الديمقراطية!

المفارقة الثالثة والتي قد لا تكون الأبرز لكنها قد تكون الأخطر على المدى البعيد وهي ذلك التحريك اللامتناهي وغير المحدود لكل ما هو "أنا" تجاه "الآخر" أيا يكن ذلك الآخر.

في المفارقة الأولى كان العنوان هو الاجتياح! في المفارقة الثانية كان العنوان هو العنف! وفي المفارقة الثالثة كان العنوان هو الصراع!

بمعنى آخر فإن نموذج "التغيير" في العراق أريد له أن يؤسس عمليا لمرحلة اجتياح مفاهيم ومعايير السيادة ووحدة أراضي الدول والحدود وكذلك لمفاهيم التحول السلمي نحو الديمقراطية وأخيرا وليس آخرا مفاهيم المجتمعات التعددية والسلم الأهلي. فمن خلال الطريقة التي تم فيها اختيار أسلوب التغيير في العراق أرادوا إرسال رسالة واضحة لكل من هو "آخر" بالنسبة إليهم بأن عجزكم عن التماهي معنا نحن الأصلح والأفضل سيجر عليكم ويلات الدماء والتفكيك والتدمير الشامل ومن خلال إدارة نشر الديمقراطية في بلاد الرافدين أرادوا الإيحاء بأننا شعوب لا تستحق "ديمقراطيتهم" لعجز تكويني فينا وفي ثقافتنا وفي ديننا!

ومن خلال إثارة الصراعات أو بتعبير أدق تحريك كل "التفاوتات" داخل أنسجتنا الاجتماعية سواء كانت عرقية أو قومية أو دينية أو مذهبية باتجاه العداوات القاتلة، أرادوا إرسال رسالة واضحة لنا أيضا بأننا ليس فقط لا نشكل "أمة" واحدة كما ندعي ونزعم، بل اننا نفتقر إلى مكونات "الدولة القومية" أيضا، ما يتطلب إعادة تفكيك أقطارنا على قاعدة "الهويات" العرقية والقومية والدينية والمذهبية المتناحرة لعقود إلى حين "نضوج" أحوالنا العامة لتتناسب مع معاييرهم وقيمهم المكتملة النمو!

إذا أنت "عراقي" قبل أن تكون عربيا وأنت "كردي" قبل أن تكون عراقيا وأنت "شيعي" قبل أن تكون مسلما. وأنت "إسلامي" قبل أن تكون وحدويا في عراقيتك، وأنت "الأنا" المقموعة أو القامعة هنا أو هناك قبل أن تتماهى مع الآخر من بني جلدتك ممن يشتركون معك في كثير من الهموم والاهتمامات والذين هم في الغالب إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

ولم يكتفوا ولن يكتفوا بما هو حاصل في العراق، فهم يريدون تعميم هذه الثقافة على امتداد "الشرق الأوسط الكبير".

فلكي تكون عراقيا مخلصا من وجهة نظرهم فلابد لك أن تعادي جيرانك من عرب وإيرانيين وأتراك وهنود و... ولا تحب أو تتودد إلا للقادمين من بعيد أو ممن هم مزروعون في قلب وطنك ممن لا "هوية" تاريخية مسبوقة لهم فيما هم يشتركون معك في "هويتك" "الشرق أوسطية" الجديدة.

الشيء نفسه يريدون تعميمه على البلدان المجاورة للعراق وإن بطرق وأساليب مختلفة. فأنت إيراني بنظرهم لم يعد يكفي للتعريف بنفسك أو بهويتك بالنسبة إليهم. فإما أن تعلن عداءك للعرب وتعود إلى عهد ما قبل الانتماء للإسلام أو ان تقسم نفسك وتوزع هويتك الإيرانية على مدى الأعراق والأقوام والملل والنحل التي تشكل الأمة الإيرانية.

وهكذا الأمر في تركيا كما في بلاد الشام كما في مصر كما في السودان كما في المغرب العربي الكبير ولن يطول الزمان حتى تنتشر هذه الظاهرة وصولا إلى بلاد الهند والصين ولا يستبعد أن تطرق أبواب أوروبا بقوة بعد سنين.

أعرف أن ما هو مقدس إنما هي القيم، قيم العدالة والحرية والحق والإنصاف، وأن الكثير من هذه القيم إنما هو مضيع في بلداننا.

لكن علينا أن نعترف ونقر أيضا بأنه كان ولايزال مضيعا ليس فقط بسبب "الطغيان" والاستبداد المنتشر في بلادنا، بل وبسبب الإجحاف والخلل الاستراتيجي الفاضح في صيغة العلاقات الدولية المتشكلة منذ نهاية عصر الاستعمار القديم في بلادنا، والدعم والإسناد اللامحدود الذي لقيته أنظمة "الطغيان" التي يتحدثون عنها من قبل أطراف المعادلة الدولية التي لاتزال تحكم العالم بالحديد والنار والتي لا تريد لبلداننا ومجتمعاتنا أن تتغير وتتطور وتنمو إلا بالطريقة التعسفية والعنفية التي يختارها "الآخر" لها وبناء على بعد أساسي واحد بل أوحد وهو القوة وغلبة هذه القوة.

وهنا قد يبدو بيت القصيد لما نحن فيه في العراق "النموذج" أنه "التأليه" للقوة بكل تلاوينها وأشكالها! أليس كذلك؟

فأنت مقهور ومقموع ما لم يكن لك ميليشيا وأية ميليشيا؟ الميليشيا المستقوية بالخارج على الداخل! وعندها تصبح كرديا مقبولا حتى لو كنت "انفصاليا" وشيعيا ديمقراطيا حتى لو كنت أصوليا وسنيا مقاوما مشروعا حتى لو كنت "سلفيا" وطالبانيا وبن لادنيا. بل أنت بعثي بل وحتى صدامي مقبول شرط أن تنتمي إلى ميليشيا لها "هوية" قادرة على الصراع مع "الآخر" مدعومة من الخارج. إنها عسكرة واعية لكل هوياتنا بوجه بعضها بعضا من أجل أن تسود الهوية الامبراطورية الأكبر والأقوى