العدد 870 - السبت 22 يناير 2005م الموافق 11 ذي الحجة 1425هـ

الاحتمالات... مفتوحة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يميل بعض الاستراتيجيين والمحللين العسكريين في المنطقة العربية والإسلامية إلى التقليل من أهمية "التسريبات" المخابراتية أو تلك التصريحات العلنية المتعلقة بشأن قيام "إسرائيل" أو الولايات المتحدة بعمليات جوية وتوجيه ضربات لمواقع حزب الله أو مراكز سورية أو مناطق محددة في إيران.

هذا الميل إلى التقليل من خطورة تلك التصريحات وآخرها ما صدر عن جورج بوش ونائبه ديك تشيني بشأن عدم استبعاد العمل العسكري، إضافة إلى ما نشرته مواقع الانترنت لصحف إسرائيلية وما نقلته "نيويوكر" عن تقارير مخابراتية... هذا الميل تجب مراجعته وإعادة التدقيق فيه حتى لا يقع المحظور في لحظة غير محسوبة.

المبالغة في المخاطر مسألة مرفوضة أيضا؛ لأنها تضع كل فرقاء الصراع في هاجس أمني يدفع الأطراف إلى التوتر العام والقلق الداخلي، ويزيد من احتمالات ارتكاب الأخطاء... وتؤدي تلك الأخطاء إلى تقديم ذريعة للمتربصين بتنفيذ مخططهم.

التقليل من المخاطر خطأ استراتيجي والمبالغة في تلك المخاطر خطأ مضاد. المسألة يجب أن تدرس بهدوء من كل الزوايا حتى تكون الحسابات دقيقة واحتمالات الخطأ نادرة. إلا أن استبعاد الاحتمال السلبي كليا هو نوع من الغرور أو محاولة لإرضاء الذات من دون تقدير جيد لموازين القوى. والخطأ في وزن الاحتمالات يساعد على عدم تقدير الإمكانات وبالتالي احتواء المخاطر المفترضة.

كل الاحتمالات مفتوحة. هذا على الأقل ما يمكن فهمه من خطاب بوش التبشيري ومواعظه السمجة عن الحرية والطغيان. فبوش ربط للمرة الأولى بين الحرية في أميركا ومدى استمرارها في النمو في العالم. وبكلام آخر اشترط بوش استمرار الحرية في أميركا بمدى اتساعها في العالم. فالطغيان كما يراه لا يهدد الحرية في العالم الآخر بل يهدد أيضا الحرية في أميركا. وحتى تستمر الحرية في أميركا لابد من محاربة الطغيان. بوش لم يستخدم كلمات الديمقراطية أو الإرهاب ولم يحدد مواضع معينة للطغيان بل تحدث بلغة الكليات تاركا الجزئيات لغيره للتحدث عنها. وبوش استبدل في خطاب المواعظ كلمات سابقة بكلمات جديدة أكثر إثارة للحساسيات الداخلية. فهو استغنى عن الديمقراطية والإصلاح "من فوق أو تحت"، وأكثر من استخدام مصطلحات جديدة تطوف على سطح من العموميات المجردة مع استعداده لتقبل الديمقراطية بوسائل مختلفة وطرق جديدة.

خروج بوش من الكلام الواضح والمحدد وتحليقه فوق الأرض مستخدما مفاهيم مجردة وعامة لا يعني تراجعه عن مواقفه السابقة ولا إعادة نظر في سياسته ولا قراءة نقدية للملفات التي خاض غمارها عن طريق القوة والحرب. فالخطاب الأخير هو هروب من الواقع إلى الأعلى، وعندما يهرب رئيس أقوى دولة في العالم من الأرض إلى السماء فهذا لا يعني أنه تراجع أو انسحب وانما حلق فوق مسلكياته إلى فضاءات أوسع من الصعب أن يصل إليه الأدنى منه في قدراته.

"جنون العظمة" مسألة خطيرة وهو مرض يصيب الرؤساء والزعماء في "سن اليأس" وخصوصا عند ضعاف النفوس والعقول. وهذا النوع من المرض ليس خطيرا إذا كان حامله من الناس العاديين إلا أنه يتحول إلى كارثة إنسانية "كونية" إذا ضرب زعماء دول كبرى يتحكمون بقرارات استراتيجية وأسلحة خطيرة. فالحروب الكبرى التي لا تكترث بالضحايا والدمار والخسائر قادها دائما مهووسون بالتاريخ وتغيير العالم، وتبين لاحقا أنهم من المصابين بداء "العظمة". وبوش هو من الصنف الذي يطمح إلى هذا النوع من "العظمة" بعد أن اقتنع بأنه "الرجل المختار" أو "المكلف".

التقليل من أهمية التصريحات وخطورة التسريبات المخابراتية للصحف والانترنت ليس حكمة. فالموقف الحكيم هو من يقرأ جيدا ويراجع كل الاحتمالات والحسابات. ولا يكفي في هذا الصدد تكرار القول إن أميركا متورطة في العراق وتبحث عن مخرج لائق للانسحاب. فهذا التحليل ليس مقنعا لأن أميركا "المجروحة في العراق" تستطيع توسيع دائرة تورطها كما سبق وفعلت في فيتنام تمهيدا للانسحاب. ففي الفترة التي كانت واشنطن تتفاوض فيها مع هانوي لترتيب عملية الخروج من المستنقعات ارتكبت حماقات كبيرة، ووسعت من دائرة انتشارها العسكري في كمبوديا ولاوس بذريعة أن الدولتين تشجعان حرب العصابات ضدها في فيتنام.

المسألة إذا معقدة وهي تتطلب الكثير من الحذر والقليل من الاسترخاء. أما ميل بعض الاستراتيجيين إلى التقليل من خطورة التهديدات فهذا ما يجب الانتباه إليه وإعادة النظر في قواعده السياسية والعسكرية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 870 - السبت 22 يناير 2005م الموافق 11 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً