البعض يركز في مطالبه الإصلاحية على الشكليات، والرد يكون الاستجابة لبعض هذه الشكليات، ولكن من دون تغيير في المحتوى. ومنذ أن رفعت الحركة المطلبية شعاراتها شاهدنا الكثير من التحولات وأصبحت لدينا انتخابات وهيئات جديدة بعضها رسمي وبعضها أهلي، ولكن يبدو أن الثقافة التي عششت في سنوات غابت عنها الشفافية بقيت كما هي، ولذلك فإن كثيرا من الشكليات التي تبدلت لم تؤثر على المحتوى الذي كان موجودا في السابق، ويستمر في الحاضر بكل تبعاته، بل ويزداد انتشارا ليصل إلى دعاة الإصلاح.
ومن تلك الخصائص الملازمة لثقافة الماضي ومازالت معنا وتهدد بإلغاء ما نحصل عليه من إنجازات ما نسمعه من حث وقبول على "ابتلاع" ما تقع عليه اليد من ثروات الوطن، سواء كانت هذه الثروات أراضي يتم الاستحواذ عليها بوضع اليد، أو "هدايا" نقدية تؤخذ من موازنة الدولة أو مباشرة من مصادر أخرى، أو "عمولات" أو مناقصات، أو تسهيلات تمرر على حساب الآخرين... إلخ.
هذه الثقافة تقول: إن لم تأخذ أنت فغيرك يأخذ وسيأخذ. وهذه الثقافة تطرح تبريرات من نوع آخر، مثلا: إن هذا جزء من حق لنا لم نحصل عليه في الماضي، أو أن هذه "المغانم" متوافرة للشاطر الذي يستطيع أن يصل إليها قبل غيره.
هذه الثقافة لا يبدو أنها في انحسار، بل على العكس. وحتى الذين يرفعون الشعارات الجميلة تراهم ينهارون أمام أول فرصة تتاح لهم للحصول على جزء من "المغانم" المجانية.
المشكلة في هذه الثقافة أنها تتلف ثروة الوطن وتخلق العداوات بين من يحصل على بعض المغانم المجانية وبين من هو محروم منها أساسا ولا يستطيع أن يحصل حتى على حقوقه المشروعة قبل أن يحلم بغنائم صغيرة أو كبيرة. والمشكلة في هذه الثقافة هي أنها لا تنتج أمة خلاقة مبدعة؛ لأن المبدع يتحول الى من يبدع في الوصول إلى المغانم المجانية قبل غيره، وليس من يستطيع تكوين الثروة أو تنمية القدرات أو المساهمة في تنمية وطنية مستدامة!
المشكلة أيضا هي أن هذه الثقافة تبعث على اليأس في قلوب الصالحين من الناس الذين يكدون ويكدحون من أجل عيش كريم، وإذا بهم في مؤخرة الركب الاقتصادي في بلادهم، ليس لأنهم لم يبذلوا الجهد ولكن لأنهم حصنوا أنفسهم وردعوها عن المغانم المجانية التي يلهث وراءها هذا وذاك ومن كل حدب وصوب.
المشكلة أيضا أن ثقافة المغانم المجانية تصور الوطن وكأنه "ذبيحة" تم نحرها ويلتف حولها كل من سال لعابه لنهش قطعة من تلك الذبيحة قبل أن تتحول إلى جيفة نتنة. بمعنى آخر، إن أصحاب "ثقافة المغانم المجانية" ينظرون إلى وطن يتلف ويحاولون انتهابه قبل أن تتلاشى أعضاؤه المتناثرة هنا وهناك .
المشكلة أيضا، أن عالم اليوم يشهد نمو بلدان ليس لها أي شيء مما لدينا من خيرات؛ لأن تلك البلدان لا تفسح المجال لانتشار ثقافة المغانم المجانية، بل ولا تسمح لأي شخص بأن يمد يده إلى ثروة الوطن ويتلاعب بها كما لو أنها ذبيجة انتهبت ويتم نهشها.
سنبقى نرفع الشعارات ونحصل على شكليات من دون أن نتقدم إلى الأمام. وفي الوقت ذاته سنرى الانسياق من كل جانب نحو ثقافة "استلاب ثروات الوطن"... بينما يزداد الفقير فقرا ويزداد عدد العاطلين "لأن الثروات تذهب لمن لا يستحق"، ويهرب المبدع الشريف بنفسه، أو بنفسه وأمواله، إلى حيث يوجد احترام للمبدعين وحيث المنع التام للطماعين الذين لا يشبعون من التهام ما تصل إليه أيديهم مجانا ومن دون تعب
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 870 - السبت 22 يناير 2005م الموافق 11 ذي الحجة 1425هـ