ونحن نعيش داخل مجتمع ما. .. ونقر بوجوده كهيكل بنائي يحوي فئات بشرية ومؤسسات مدنية، لابد أن يكون بداخله كينونة تدلل على هذا الكيان الذي يعيش فيه بشر يملكون مشاعر وعواطف وأفكارا متنوعة، سواء اختلفوا أو اتفقوا فيما بينهم، يبقى هناك هدف يجمع كل تلك الفئات على اختلاف مستوياتهم، من الجاهل إلى المثقف، والعالم والمتعلم... إلخ، هو البقاء من أجل التكيف والتأقلم والتمازج لأجل إنتاج ثقافة حياتية غايتها بالدرجة الأولى مصلحة الأفراد والجماعة فوق مصلحة الفرد الشخصية، وليس بالضرورة ان يقبلها كل الناس وانما غالبية الفئات، أي متوسط ما يلبي طموح الجماعة في سبيل التحرك داخل بوتقة المجتمع.
لذلك وان اختلف الناس فيما يطرحونه، كل له ما يبرره وفق تصوراته ومعتقداته، أي ما يعرف بـ "الإطار الدلالي"، نجد ان هناك طرقا مرنة، تيسر سبل الجفاء والتعصب في الفكر، وذلك عبر الحوار والتفاوض للوصول إلى نتيجة ترضي الأطراف من دون اللجوء إلى أساليب القوة والعنف، التي تكون بمثابة نكسة ترجع عقارب الساعة إلى الوراء، وتعيد الحياة إلى نقطة الصفر.
البعض ينتهج لحياته أسلوبا يغلب عليه طابع التمرد في معظم مشوار حياته، فيجد أن العصيان هو الطريق الأسهل للوصول إلى قلوب الجماهير، وذلك وفقا لما يطمح إلى بلوغه من مستوى القيادة التي تؤهله لخوض معترك الحياة، لكنه للأسف يفتقر إلى أبسط أساسيات القيادة، وهي المعرفة والثقافة. لذلك تجد هذه الفئة التي يصطلح عليها بالمتمردة، تستقي ذلك النهج من مصادرها الخاصة، سواء كانت عبر وسائل الإعلام كالتلفاز، فيما يلجأ الآخر إلى الخطابات الدينية والسياسية والنشرات والكتب... فصنوف المعرفة هنا تقاس بمدى دراية الفرد بالتكيف مع ظروف الحياة وفق أسلوب يرتضيه المجتمع.
من هنا تختلف صنوف المعرفة ومعاييرها لدى الأفراد، فالبعض يقيمها وفق مستواه الأكاديمي، والبعض الآخر يرجعها إلى الخبرة والتجارب التي تصقل شخصية الفرد، وتكون بطاقة عبور تيسر له الخوض في ميادين الحياة المتعددة، سواء السياسية والاجتماعية والاقتصادية... لكن يبقى من يحدد منزلة تلك الفئة هم الناس أو الشعب أو "الرأي العام".
لطالما كان "الرأي العام" هو القوة التي يستند عليه دائما في عملية انتقاء من يمثله ويعبر عما يروق لهم من أفكار، يراد العمل بها وتطبيقها في الواقع. وتسند إلى ممثلهم المسئولية، والذي سيكون بمثابة المتحدث الرسمي باسم الشعب الذي يجب أن يجمل صفة الأمانة ويتمتع بصحوة الضمير، وألا يتلاعب بأهواء الناس حتى لا ينحرف عن جوهر القضايا بغية تحقيق مصلحته الذاتية، فيخلق حاجزا يعرقل سبل الحوار الصحيح والدفع به نحو الأمام.
لذلك تبقى مسئولية النائب أو ممثل الشعب تتمثل في قدرته على توصيل الرسالة كما هي إلى السلطات العليا، والتي تعكس توجه قطاعات جماهيرية عريضة لا يمكن الاستهانة بقدرتها وإمكاناتها في حال تم تجاهلها، لأنها في أية لحظة يمكن أن تثور إذا لم تشعر بالرضى عن حالها، أو ربما لأنها تجد أن صوتها لا يسمع إلا عند اللجوء إلى لغة العنف والتمرد والعصيان.
لذلك لكل قاعدة شواذ... وتبقى الحال الشاذة هي خروج جماعات وفئات عن التنظيم المتعارف عليه، وتخلق لذاتها حركات تتبنى أفكارها وتحمل في طياتها رؤى وقيما منحرفة تدعي المثالية، كما تنخرط أحيانا في أعمال لا يمكن اعتبارها أفعالا محمودة، وتكون بعيدة عن مسايرة عجلة العصر، وتبقى تحتفظ برجعية الزمن البالي وتتمسك بها من دون قبول ثقافة الرأي الآخر، لذلك يصارع هؤلاء في تنظيماتهم الخاصة، في سبيل تسيير شئونهم اليومية على قاعدة "خالف تعرف".
إذا الأنماط البشرية ومستويات الجماهير خليط من مراتب مختلفة، كل فئة تملك لذاتها توجها وفق أطر تكوينها... والمطلوب السعي نحو ثقافة تكبح المشاحنات الخانقة بين الفئات المختلفة أيديولوجيا، التي ربما تصل إلى مرحلة العقدة التي يصعب فكها، بالعمل والتدريب على قبول ثقافة الرأي الآخر، لتصل إلى مرحلة تتفوق فيه مصلحة الجماعة على المصلحة الشخصية، ونكون مرنين في التعاطي، لنستطيع مسايرة عصر يرتكز أساسا على التكنولوجيا والمعلومات.
خلاصة القول إنه للخروج من المأزق، لابد من الإيمان بمبدأ الحوار واحترام الرأي الآخر، لنبقى اخوة تحكمنا روابط الإسلام ونعيش في سلام وأمان، فالاتحاد قوة تكسر جمود التعصب والعزلة
إقرأ أيضا لـ "أنور الحايكي"العدد 868 - الخميس 20 يناير 2005م الموافق 09 ذي الحجة 1425هـ