لأول مرة منذ فوز الائتلاف الاشتراكي الأخضر في ألمانيا مرة ثانية بالانتخابات العامة في سبتمبر/ أيلول ،2002 تجاوزت شعبية الائتلاف وفقا لآخر عملية استطلاع للرأي تمت مع حلول العام الجديد، شعبية المعارضة. ومازال الألمان كما في السابق يفضلون تأييد المستشار الاشتراكي غيرهارد شرودر في منصبه بينما أقلية منهم يحبذون منافسته على هذا المنصب أنجيلا ميركل زعيمة الاتحاد المسيحي الديمقراطي. وعلى رغم حال عدم الوفاق القائمة بين الحكومة الألمانية وفئات كبيرة من الشعب الألماني بسبب الصعوبات التي يواجهها الألمان بسبب الإصلاحات المتضمنة في أجندة 2010 التي أخذ شرودر على عاتقه تحقيقها لهدف استعادة ألمانيا قوتها الاقتصادية السابقة.
وتشير نتائج عملية الاستطلاع إلى أن الشعب الألماني بدأ يستوعب أهمية الإصلاحات وقناعته بأنه ينبغي عليهم ربط الأحزمة. ذلك أن عهد الرفاهية الذي شهدته ألمانيا في العقود الثلاثة الماضية انتهى وبدأ عهد جديد يقوم على الواقعية. مع بدء العام الجديد بدأ العمل بإصلاح قانون العمل وهذا أهم بند ورد في أجندة .2010 وتأمل الحكومة الألمانية أن يدفع القانون الجديد بمئات الآلاف من العاطلين عن العمل منذ زمن بعيد لمزاولة العمل من جديد والاستعداد للحصول على وظائف التشغيل. وكان شرودر ربط مستقبله السياسي بنجاح أجندة 2010 واستطاع أن يقنع حزبه بها بعد مناقشات حادة. وكلف تمسك شرودر بالإصلاحات خسارة حزبه الانتخابات في عدد من الولايات وخصوصا في الشطر الشرقي إذ يزيد معدل البطالة ضعف ما عليه في الشطر الغربي.
ويأتي التحول الجديد في مزاج الألمان لينهي قطيعة طويلة الزمن مع الائتلاف الاشتراكي الأخضر وبعد نهاية عام سيئ من وجهة نظر الائتلاف الحاكم الذي يتزعمه شرودر وفي الوقت الذي يفتقد فيه الألمان إلى نهج واضح للمعارضة المسيحية الليبرالية. وكانت استقالة لاورنس ماير الأمين العام للاتحاد المسيحي الحاكم من جميع مناصبه السياسية بمثابة هدية أعياد الميلاد ورأس السنة للاشتراكيين والخضر. فقد تم الكشف عن أن ماير تلقى مبالغ من شركة خاصة لقاء أعمال لم يقم بها. وتركز النقاش مرة جديدة عقب الاستقالة عن نفوذ الشركات المحلية على السياسيين إذ هناك مجموعة معتبرة من أعضاء البرلمان الألماني على سبيل المثال يحصلون على رواتب من شركات ألمانية لقاء القيام بدور لوبي مساند لها. بعد وقت قصير على استقالة ماير انقلبت الموازين لصالح الاشتراكيين والخضر وتقدم الائتلاف الحاكم لأول مرة على المعارضة بفارق نقطة واحدة 46 في المئة مقابل 45 في المئة.
كان العام 2004 الماضي أطل ببداية غير مشجعة لمعنويات الاشتراكيين الألمان خصوصا. ففي شهر يناير/ كانون الثاني كانت شعبية الحزب بلغت أسوأ معدل لها منذ تأسيس الحزب، 20 في المئة ولم يكن الحزب تعافى بعد من المناقشات الحادة بشأن أجندة 2010 وكان يهدده الانقسام بعد أن عزم عدد من أعضاء البرلمان اليساريين الاستقالة من الحزب وتأسيس حزب يساري جديد. لكن تهديداتهم لم تثن عز شرودر الذي راح يجول المناطق الألمانية محاولا إقناع الناس بأهمية الإصلاحات. ودفع الاشتراكيون والخضر الفاتورة الغالية في الشهر التالي حين جرت انتخابات برلمان ولاية هامبورغ والتي تعرض فيها الاشتراكيون إلى هزيمة قاسية جدا استطاع نتيجتها عمدة المدينة أولي فون بويزت التابع للاتحاد المسيحي الديمقراطي أن يشكل حكومة مستقلة عن سائر الأحزاب الأخرى. وكانت ولاية هامبورغ التي ينحدر منها المستشار الاشتراكي السابق هيلموت شميت لعقود من الزمن معقلا قويا للاشتراكيين. ولم تؤثر فضيحة الكشف عن علاقة العمدة الشاذة مع رجل آخر على سير الانتخابات التي كانت في مقدمة سلسلة من الانتخابات التي لم تكتب نتائجها لصالح الاشتراكيين والخضر وجرت تباعا في ولاية السار ثم في ولاية تورنجن إضافة لانتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في الصيف الماضي.
ثم حصل ما لم يكن في حساب طرفي الائتلاف الحاكم. فقد أدت موجة الاحتجاج على أجندة 2010 إلى ما يشبع عصيان شعبي وراحت مسيرات شعبية تجوب المدن في شطري البلاد تعبيرا عن رفض الناس خصوصا لإصلاحات قانون العمل ونشأت موجة خوف من المستقبل. ظل شرودر مصمما على المضي بإصلاحاته وطالب بتحسين جسر الاتصال بين الحكومة والرأي العام وشدد على أهمية توضيح الأمور للناس. أمام صمود شرودر بدأت المسيرات الشعبية تقل تدريجيا حتى توقفت بصورة نهائية وعندها أدرك شرودر أن الشعب فهم حتمية العمل بالإصلاحات. لم تكن مرحلة سهلة للمستشار. فقد كتب عليه أن يشعر عن كثب بغضب الناس وخوفهم. فقد رشق بالبيض حين زار مدينة فيتنبيرغ بالشطر الشرقي وقام رئيس وزراء ولاية براندنبورغ في ألمانيا الشرقية السابقة ماتياس بلاتزيك بالتدخل شخصيا لحماية شرودر من مجموعة من الأشخاص الحانقين. أصبحت حياة المستشار في خطر وخصوصا في مناطق الشطر الشرقي. أوعز شرودر بتكثيف حملة التعريف بأهمية الإصلاحات ثم نشأت مناقشات جديدة داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي طلبا لإصلاح قوانين الإصلاح. في هذا الوقت ساءت الأمور إلى حد تخلي شرودر عن منصب رئاسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي لصالح هانز مونترفيرنغ الاشتراكي الاستراتيجي الذي أدار الحملة الانتخابية عامي 1998 و.2002 كان قرار شرودر علامة تحول في استراتيجية الاشتراكيين من خلال تقسيم المهمات. في الغضون تجاوزت شعبية المعارضة شعبية الائتلاف الحاكم لكن في الوقت نفسه غرقت المعارضة المسيحية في نزاع داخلي وبدأ شرودر على الفور يستعيد شعبيته وثقة الناس به. وعلى رغم خسارة الاشتراكيين في الانتخابات المحلية التي جرت في ولايتي سكسونيا وبراندنبورجغ في سبتمبر الماضي إلا أن الاتحاد المسيحي أيضا مني بهزيمتين بينما كتب النجاح للنازيين الجدد وخصوصا في سكسونيا. توقفت في هذه الأثناء موجة الاستقالات الجماعية من الحزب الاشتراكي وبدأ الاشتراكيون يستعدون للعودة. ظل شرودر يستخدم السياسة الخارجية ورقة مهمة بيده لزيادة شعبيته. من دون أن يفعل الاشتراكيون شيئا ملفتا للنظر راح النزاع الداخلي يضعف الاتحاد المسيحي المعارض. في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أعلن خبير السياسة المالية في الاتحاد المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس من منصبه نتيجة خلاف على النهج مع زعيمة الحزب أنجيلا ميركل ثم تبعه استقالة خبير سياسة الصحة هورست زيهوفر وقال الأمين العام الجديد للحزب الاشتراكي كلاوس أوفه بينيتر وهو لا يخفي شماتته أن الاتحاد المسيحي الديمقراطي عاجز عن تحمل مسئولية الحكم وظل يردد هذا الكلام في كل مناسبة ويشير في الوقت نفسه إلى أن ميركل الطامحة لتصبح مارغريت تاتشر ألمانيا باتت وحيدة بعد أن فقدت أبرز القيادات الموعودة. حتى رئيس الدولة هورست كولر الذي تدخلت ميركل شخصيا كي يخلف الرئيس السابق يوهانيس راو لا يوحي بأنه موال للمعسكر المسيحي المحافظ إذ سرعان ما تحرر من تهمة المحسوبية على المسيحيين. مازال الاستراتيجيون في دار فيلي برانت مقر الحزب الاشتراكي بمدينة برلين يتابعون حتى اليوم النزاع الدائر في الاتحاد المسيحي وهم يعرفون أن حزبهم استرد عافيته من دون أن يفعل شيئا ملفتا للنظر وهذا تحديدا ما يحذر منه شرودر هذه الأيام. فقد قطع شرودر إجازته وعاد إلى مكتبه عقب سماعه أنباء زلزال تسونامي في آسيا واحتمال أن يكون مئات الرعايا الألمان قد لقوا حتفهم في آسيا هذا الموقف لن ينساه الناخبون الألمان بسهولة
العدد 868 - الخميس 20 يناير 2005م الموافق 09 ذي الحجة 1425هـ