بلغ الفارابي الآن مرحلة الشيخوخة ولم يعد عنده الكثير ليقوله. إلا ان القدر كان بانتظاره وستشهد شيخوخته الكثير من التحولات غير المتوقعة، وستدفع ابن فاراب إلى إقامة صلات مباشرة مع الدولة. لم يكن قرار الفارابي سهلا فهو عاش عمره بعيدا عن السلطة وصراعاتها، يراقب انقلاباتها الداخلية وما ينجم عنها من انقسامات وانكسارات عززت قناعاته البسيطة بالابتعاد عن شرورها وأحقادها وما تولده من ضغائن بين الملتحقين بها أو المتحلقين حولها.
قرار الفارابي لم يتولد من فراغات وانما جاء من قناعات تولدت لديه حين بلغ سن الشيخوخة ولم يعد يملك الكثير ليخسره. فطموحاته السياسية كانت أصلا محدودة وكل ما أراده هو البحث عن حد أدنى من المعاش يسعفه في حياته اليومية وتفرغه الدائم للبحث الفلسفي والتأليف الموسيقي. فالموسيقى كانت ملاذه الآمن ووسيلة للتهرب من فضاءات مشحونة بالصراعات والانتفاضات والانقسامات. وشكلت تلك الموسيقى في ذهن الفارابي مجموعة أنظمة عززت قناعاته الفلسفية التي تقوم أصلا على فكرة التوليف والانسجام وضبط الايقاعات المختلفة في لحن واحد. هذا الفن أعطى الفارابي قدرة تفكيرية على وضع أسس هندسية متجانسة ومتراتبة لمدينته. فالتفكير في "المدينة الفاضلة" جاء في جانب منه ردة فعل على واقع متقلب وكثير التغير يسير وفق تعارضات مضطربة وغير منسجمة تؤدي إلى هلاك العمران وإضعاف الشوكة وزعزعة استقرار الدولة. وفي جانب آخر كانت المدينة المنسجمة والمتجانسة هي الرد الفلسفي المتناغم العناصر كالموسيقى.
هذه الفوضى السياسية في مركز الخلافة وجوارها عززت القناعة عند الفارابي بضرورة البحث عن ضوابط للمدينة استنادا إلى قواعد هندسية تنظم العلاقات وفق تراتب هرمي يبدأ بالرأس "الرئيس" وينتهي بالقاعدة. إلا ان هذا التفكير لم يأت من فراغ وانما تأسس على تجربة طويلة ومريرة ومشاهدات وأخبار وأنباء كانت ترد بغداد تباعا من الاقاليم المجاورة.
في مرحلة شيخوخة الفارابي تشكلت مجموعة معطيات أبرزها قيام الدولة الإخشيدية في مصر واستقلالها عن مظلة الخلافة العباسية بسبب ضعف السلطة المركزية وتراجع رقابتها على الأطراف. وشجع قيام الدولة الاخشيدية في 323هـ "935م" الدولة الفاطمية في المغرب على تكثيف حملاتها وإرسال حملة رابعة على مصر في العام 324هـ "936م" كان نصيبها الفشل أيضا.
إعلان انفصال السلطة الإخشيدية وتحولها إلى دولة مستقلة في مصر اضعف مركز الخلافة، ووضع الخليفة العباسي "الراضي" في موقع صعب. الأمر الذي فتح شهية الأسر السياسية على المطالبة بحصصها، والتفكير جديا في الإعلان عن دويلات مستقلة عن مظلة الخلافة.
تصادفت تلك الانقسامات التنظيمية مع وفاة الإمام الأشعري "أبوالحسن" في سنة 324هـ "935م". ولاشك فيه ان رحيل الإمام الأشعري في تلك الفترة الصعبة أحدث فراغا نظرا لمكانته الفقهية ودوره المميز في الرد على "مقالات الإسلاميين" وتفكيك المنظومة المعرفية لفرق المعتزلة. فالأشعري كان من المعتزلة وانقلب عليهم من الداخل واسقط هيبتهم الايديولوجية بعد ان نجح سابقا الخليفة المتوكل في اسقاط هيمنتهم السياسية على الخلافة العباسية. لم يكن الإمام الأشعري صاحب مذهب فهو كان على مذهب الإمام الشافعي ولكنه نجح في تأسيس مدرسة خاصة أسهمت في تطوير المنهج الفقهي عند المسلمين، وأحدثت لاحقا ما يشبه الثورة الثقافية في مجال علم الكلام الإسلامي عرفت بطريقة الأشعري... وهي طريقه أخذ بها الكثير من القضاة والعلماء فتأسست في ضوء قانونها سلسلة من الفقهاء الكبار في التاريخ الإسلامي.
رحيل الأشعري جاء في فترة صعبة. فوجوده كان ضمانة وبوفاته تشكلت حركات واتجاهات استفادت كثيرا من الفراغ ولعبت في الوقت الضائع.
في هذه الفترة ستشهد بغداد نمو قوى سياسية متخاصمة تتنافس على السلطة وتتصارع على مراكز النفوذ بحثا عن مواقع أو مناطق تشكل الحدود المستقلة لدولها. وستبرز في هذه الفترة الزمنية القصيرة أسماء عائلات وأسر سياسية ستلعب لاحقا دورها في إعادة تشكيل الخلافة وفق تصورات ونماذج مختلفة. آنذاك برزت الأسرة الحمدانية في بغداد وتصارعت مع السلاجقة على سلطة الخلافة. وإلى جوار الحمدانيين ظهرت أسرة بني بويه وأخذت تخطط للاستيلاء على السلطة. كذلك اتجهت الدولة الإخشيدية في مصر إلى البحث عن مواقع نفوذ لها في بلاد الشام في وقت كانت تتلقى سلسلة ضربات عسكرية من الدولة الفاطمية في المغرب.
وتحت هذا السقف السياسي اشتد الصراع السلجوقي - البويهي - الحمداني - الإخشيدي وامتد من بلاد فارس والأناضول إلى مصر وبلاد الشام وصولا إلى بغداد. وفي ظل هذا الصراع جلس الفارابي وبدأ بصوغ آراء أهل المدينة الفاضلة وأخذ يتصور مبانيها ومداخلها ورأسها وقاعدتها وروحها الجديدة المغايرة لعصره.
يرجح ان الفارابي بدأ بكتابة ما عرف لاحقا بالمدينة الفاضلة في العام 327هـ "938م" ولا يعرف ما اذا كتبه بقرار ذاتي أم بطلب من أحد رجال الأسرة الحمدانية في بغداد. إلا أن الكتاب خرج في وقت كانت تشهد بغداد سلسلة انقلابات داخلية وتعيش حياة مضطربة. وهذا يفتح الترجيح على الاحتمالين: الأول، ان يكون الفارابي كتب "المدينة الفاضلة" بناء على تكليف من رجل سياسي طموح يفكر في بناء دولة نموذجية على نسق "جمهورية" افلاطون. والثاني، ان يكون الفارابي كتب تصوره عن مدينته ودفعه إلى أحد رجال الأسرة الحمدانية للأخذ به والاستفادة من تعاليمه والبدء في تأسيس دولة نموذجية تنسج علاقاتها الداخلية وفق المنوال الذي هندس خطوطه ابن فاراب.
وبعيدا عن الاحتمالات شكل كتاب "المدينة الفاضلة" بداية جديدة في حياة الفارابي الذي دخل منذ فترة طويلة سن الشيخوخة. فالكتاب بعد الفراغ من تأليفه احدث تحولا في منهج حياته وعلاقاته ورؤيته للسياسة، ويبدو انه قرر على اثره الانتقال من العزلة والانطواء إلى مجال آخر أقرب إلى السلطة. فالفارابي صاغ شخصية المدينة إلا أن الكتاب لعب دوره المضاد فأعاد صوغ شخصيته ووضعه على مرتبة مختلفة ومسافة قريبة من الدولة التي تصورها في مخيلته. وبعد تأليف الكتاب سيدخل الفارابي الطور الأخير من حياته وسيبدأ مرحلة جديدة من العلاقات السياسية شكلت في النهاية المشهد الأخير في شيخوخته الطويلة.
حتى الآن لايزال الفارابي في بغداد والصراعات بين الأسر السياسية على أشدها. وفي تلك الفترة وتحديدا في العام 329هـ "940م" سيرحل الخليفة العباسي "الراضي" تاركا الحكم للخليفة المتقي الذي عصفت به رياح الصراعات من كل الجهات والاتجاهات. فبعد موت الراضي سارع الحمدانيون إلى الاستيلاء على السلطة ونجحوا في السيطرة على بغداد سياسيا في العام 330هـ "941م" لمدة سنة واحدة.
لم ينجح الحمدانيون في الإمساك بمقاليد السلطة وحماية الخلافة من عصف القوى السياسية وتنافس الأسر على الزعامة، فدخلوا في مواجهات عسكرية مع الدولة الإخشيدية التي حاولت مد نفوذها إلى بلاد الشام. هذا الصراع الاخشيدي - الحمداني على بلاد الشام اضعف نفوذ الأسرة الحمدانية في بغداد بعد هزيمتهم في موقعة قنسرين في 330 هـ "941م" فدخلت في معارك سياسية صعبة واحتدم تنافسها على مواقع النفوذ مع السلاجقة وبني بويه. وشهدت عاصمة الخلافة مواجهات دموية وتصفيات واغتيالات بين الفرقاء الثلاثة تتوجت أخيرا باعتقال الخليفة العباسي "المتقي" في العام 333هـ "944م" وسجنه بذريعة تعاونه مع البويهيين.
اعتقال الخليفة حسم الصراع لمصلحة الأسرة البويهية لاحقا فقرر الحمدانيون مغادرة بغداد والرحيل إلى حلب وبناء دولتهم المستقلة هناك. وكان على الفارابي ان يختار ما بين العيش في بغداد في ظل الأسرة البويهية التي أسست دولتها بعزل الخليفة المستكفي في العام 334هـ "946م" أو الانتقال الى حلب مع الأسرة الحمدانية التي نجحت في منع الاخشيديين من بسط نفوذهم عليها وتأسيس الدولة الحمدانية هناك سنة 333هـ "944م".
وبين الأسرة البويهية في بغداد والأسرة الحمدانية في حلب قرر الفارابي الرحيل إلى دار جديدة حاملا معه أفكار تلك "المدينة" المتخيلة لعلها تجد فرصتها التاريخية للظهور أو مكانها الجغرافي المناسب للتأسيس
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 868 - الخميس 20 يناير 2005م الموافق 09 ذي الحجة 1425هـ