لحظات الانتظار في صالات المطارات، تتيح لك وقتا فائضا عن الحاجة، تتأمل فيه الوجوه. .. تنصت جيدا لإيقاع الأحذية على المرمر حتى لتكاد تميز بين حذاء امرأة رشيقة في مقتبل العمر، وبين أخرى بدينة في طريقها الى خريف النهايات، كل ذلك من دون أن تكلف عينك عناء رصد الجسدين اللذين يخلفان ايقاعين لا شك في أن بيتهما نشاز... وحدها الأذن التي تضطلع بتلك المهمة... لكأنك ترى بأذنيك، فيما العين تسرح في أرجاء الصالة بحثا عما يتيح لها استعارة وظيفة الأذن... أن تسمع وبصفاء بالغ الهدوء الكامن في بعض الوجوه، أو تلتقط وبانزعاج صراخا يضج في داخلها.

على مقعد قصي... امرأة يسبقها عطر مثير... تبدو في الثلاثينات من العمر... تقبل كأنها تمشي على الماء... لا صوت لوقع حذائها، على رغم الاستفزاز والإغراء الصريحين لمرمر الصالة... تختار أول مقعد، فيما تفصل بيننا خمسة مقاعد... تطيل النظر في ساعة مثبتة على الحائط... ملامحها أبسط ما يقال عنها أنها خلقت لاقتتال الإخوة ... قتال لا ينتهي بين الأصدقاء والغرباء والخارجين للتو من الحانات، وبلطجية المدن المليئة بالفلتان النهاري. باختصار هي مشروع فتن لا حصر لها... يكفي انه لفرط بهائها لم يتجرأ أحد بالجلوس الى جوارها طوال فترة انتظار الإعلان عن إقلاع الرحلة التي استمرت لأكثر من 45 دقيقة... وكلما هم أحدهم أن يأخذ مكانه الى جوار مقعدها تردعه نظرة تصوبها اليه، فيصاب بما يشبه الضياع بحثا عن أية جهة تنتشله من اللا نهايات.

أغمض عيني لثوان، وأترك لأذني دور الاقتراب من ملامحها أكثر فأكثر... سهول تضج في داخلها وأودية... أنهار من لبن وفضة... برد خفيف يعرج على الروح في أوج شهر آب... ملاذ من السيول والخوف والكلاب الضالة وحرس النوايا... تلاوات قبل الساعات الأولى من الفجر... حضن بعد غياب... ويقظة منعشة بعد غيبوبة كادت أن تغدر بالروح... موسيقى رعاة بسطاء لا يحلمون سوى بالعودة إلى أكواخهم وفوانيسهم المتعبة وعشائهم الشحيح.

أفتح عيني... أرمي ببصري الى حيث أظنها استقرت... لا وجود لها! فقط أثر عطر حزين تركته هناك يعد ضحاياه بأكثر من ضياع واقتتال وفلتان نهاري، فيما هي تتوارى حاملة معها أنهار اللبن والفضة والبرد الخفيف في شهر آب والملاذ من السيول والخوف والكلاب الضالة وحرس النوايا والتلاوات قبل الساعات الأولى من الفجر