هذا ليس أول مؤتمر يتناول التحديات التي يواجهها العالم العربي وبضمنها التحديات الإعلامية. ونحن بحاجة إلى المزيد من المؤتمرات لتقييم الواقع وتبادل المعرفة، فالإعلام باب من حقائق عصرنا الكبرى، ودخل في نسيج الحياة، وفي قلب الحراك الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. على مستوى الدول، وعلى مستوى العالم. وهذا ما حفزنا في الإمارات لإعطاء الإعلام الأهمية التي يستحق، كما في مؤتمركم هذا والمؤتمرات المماثلة، وكما في إنشاء مدينة دبي للإعلام وجائزة الصحافة العربية ومنتدى الإعلام العربي. وكما في تطور أداء وسائل الإعلام في الإمارات، واتساع مساحة الحرية المتاحة لها.
نعم نحتاج إلى المزيد من المؤتمرات، لكننا أيضا نحتاج إلى المزيد من العمل وإلى المزيد من الجهد في إعداد الكوادر وتطوير الأداء، وإلى المزيد من الجدية والجرأة في الطرح والتناول.
وقبل أن أعرض على حضراتكم رؤيتي للتحديات التي يواجهها الإعلام العربي في عصر المعلومات، أحب أن أشير إلى أنني من الذين لا يحملون الإعلام أكثر من طاقته، ولا يطالبونه بما لا يستطيعه. فالإعلام لا يعمل في الفراغ، ولا يتحرك بمعزل عن القوى الفاعلة في الدولة والمجتمع. إنه جزء من كل متكامل، لكنه الجزء العظيم التأثير في الأجزاء الأخرى. وإذا كان لنا أن نشبه المجتمع بسفينة، فالإعلام موجود في غرفة القيادة، ومشارك في تحديد اتجاه السفينة، وفي سرعتها، وفي الوصول بها إلى محطتها بسلام، وفي الوقت المناسب، وسواء كان البحر هادئا أو كان هائجا.
والواقع أن الإعلام العربي مارس هذه الشراكة منذ البدايات الأولى لمسيرة النهضة والتحديث، وكان الإعلاميون دائما بين طلائع التنوير والتقدم، وكانوا البشير والنذير، وبينهم فرسان لا يخافون في قولة الحق لومة لائم، ولا سلطان عليهم إلا الضمير، ويتقدم عندهم العام على الخاص، والجماعة على الفرد، والوطن على الجميع.
لكن هذا الدور الرائد تعرض لانكسار شديد عندما ابتلي عالمنا العربي بالفكر الشمولي والحكم الشمولي الذي ما أن اكتشف سحر الإعلام حتى سيطر عليه وحرفه عن وظائفه، وحوله من خدمة الوطن إلى خدمة المتسلطين عليه، ومن كشف الأخطاء إلى التستر عليها، ومن منبر للحوار بين قوى المجتمع الحية، إلى سلاح للتشهير بالخصوم والرأي الآخر.
وبعد أن تكاثرت الهزائم، وألقى الفشل التنموي بأثقاله على المجتمع، وصار التمويه على الواقع مستحيلا، ألقى الفاشلون بالمسئولية على غيرهم... مرة على مؤامرات داخلية، وأخرى على مؤامرات خارجية، وسارع إعلامهم إلى تبرير الفشل بدل تفسيره، وتقديم الفاشل في صورة الضحية، ليس فقط لإعفائه من تحمل التبعات، بل أيضا ليحظى بالعطف والتقدير بدل المساءلة والحساب.
من حسن الحظ أن هذه الحقبة من حياتنا العربية انتهت أو شارفت على الانتهاء، ولم يعد ممكنا تسويق الأوهام أو تبرير الفشل بأسباب ملفقة، أو تحويل الهزائم إلى انتصارات. وشكرا للتكنولوجيا التي فتحت فضاء المعلومات على اتساعه أمام الناس، فوضعت العالم العربي بدوله وحكوماته ومجتمعاته أمام حقائق الواقع وتحديات العصر الجديد.
أما بالنسبة إلى الإعلام، فكان عليه أن يواجه أولا تحدي الصدقية، إذ اكتشف الناس أن إعلامهم الوطني يقدم إليهم صورا عن أنفسهم وعن بلدانهم وعن العالم الذي يعيشون فيه غير الصور الحقيقية.
وكان على الإعلام أن يواجه أيضا تحدي المنافسة. ولكن كيف ينافس وهو مكبل بأنماط العمل التي اعتاد عليها لعقود طويلة. وكيف ينهض ليواجه هذا الغزو الفضائي وهو مقيد بقوانين مهمتها الأولى التحكم في المعلومات ومنع الرأي الآخر؟
واقع الحال أن استجابة الإعلام لهذا التحدي كانت بطيئة جدا، وظلت وسائل الإعلام الأجنبية، مصادر رئيسية للأخبار والمعلومات. فقد كان هناك فراغ. والفراغ عادة لا ينتظر، بل يفسح المجال لمن يبادر ويتقدم... كان الفراغ ظاهرا للجميع، وجرت محاولات لملئه، لكنها وقفت عند حدود تحويل البث الأرضي إلى بث فضائي، وإعادة إنتاج القديم بأشكال جديدة، إلى أن تقدم بعض الأشقاء بإطلاق فضائيات ذات أسلوب جديد والتي مهما كان الرأي حولها، فقد جاءت مثل حجر كبير ألقي في مياه الإعلام الراكدة، فتحركت بعشرات المشروعات الإعلامية وعشرات الفضائيات الجديدة، وبفكر يحاول الإجابة عن أسئلة الصدقية والمنافسة.
ومن طبائع الأشياء أن الانتقال من حال إلى حال، يصطحب معه الأخطاء والتجاوزات، ويولد احتكاكات كثيرة بين القديم والجديد، وبين المألوف وغير المألوف، ويحتمل الجدل الصاخب حول أساليب العمل وحدود التناول. إنه في الواقع جدل حول مفاهيم أساسية في الحياة تتعلق بالتنمية والتحديث والإصلاح وإدارة الدولة وحق الناس في التعبير عن رأيهم والدفاع عن مصالحهم. وهذا الجدل قابل دائما للاشتعال بفعل تأثيرات القضايا الساخنة، وتحديدا فلسطين والعراق ومكافحة الإرهاب، وارتباط ذلك كله بسياسات دولية عموما وأميركية خصوصا، لديها مشروعات معلنة تجاه المنطقة، ولديها حضور كثيف في كل شئونها.
ان الإعلام مثله مثل أي نشاط آخر، يحتاج إلى إصلاح وتغيير. وفي الوقت نفسه، هو لاعب رئيسي في قضية الإصلاح والتغيير.
وفي هذه القضية نقطة حرجة وأخرى ساخنة. أما النقطة الحرجة فتأتي من المفارقة الكامنة بين ضرورة الإصلاح كمطلب وطني، وبين إقحام المشروعات الأجنبية على هذا المطلب، ما يوقع بدعاة الإصلاح بعض الحرج، ويفرض عليهم جهدا إضافيا لتأكيد أصالة مفاهيمهم الإصلاحية، وحمايتها من شبهة التواطؤ مع المشروعات الأجنبية التي يرفضها الناس تلقائيا مهما كان هدفها وأيا كان مصدرها.
أما النقطة الساخنة فتنبع من العلاقة الملتبسة بين الإصلاح وبين الهوية الوطنية بعناصرها المتغيرة ومكوناتها الثابتة، وخصوصا العروبة والإسلام.
فأي إصلاح أو أي تغيير لابد أن يتوسل بمنجزات العصر، وأن يستفيد من نماذجه الناجحة، وأن يتفاعل مع الأساليب التي قادت إلى هذا النجاح. وإذ ان منجزات عصرنا تنتسب إلى غيرنا، فإن تأثيرات الإصلاح على عناصر الهوية الوطنية تطرح نفسها بقوة، ويجرى استغلالها لمقاومة الإصلاح والتغيير.
تعلمون أن هذه المسألة لم تحسم على رغم أنها مطروحة منذ حملة نابليون على مصر سنة 1798 والتي شكلت بداية احتكاك الواقع العربي والإسلامي مع الحضارة الغربية المعاصرة. وكانت تطفو على السطح مع كل مفصل مهم في حياتنا العربية وعالمنا الإسلامي، ثم تعود وتختفي ويتم تجاهلها إلا من نخب فكرية معزولة عن حركة المجتمع، بينما هي تتفاعل في السراديب والدهاليز، ويحدث حولها الاصطفاف الذي انتهى بعضه عنفا وبعضه إرهابا وبعضه غربة واغترابا وبعضه عزلة عن المجتمع والدنيا. أما عند غالبية الناس فقد انتهى هذا التفاعل، حيرة ومعاناة نفسية وأسئلة عن سبل التوفيق بين الأصالة والحداثة، وبين التقليد والتجديد.
في عصر المعلومات، لم يعد ممكنا لهذه القضية أن تتوارى تحت السطح، فهي كامنة في قلب كثير من الصراعات والتوترات، وفي قلب جهود التنمية والتحديث والتغيير، ما يفرض على القادة والمفكرين والإعلاميين التعاطي معها بأصالة وعقلانية وشجاعة، من أجل تخليص عناصرها من الشوائب والانحرافات الفكرية، ليكون بالإمكان بلورة جوهرها الحافز على الإصلاح والتغيير.
وأنتم أهل الإعلام تتحملون مسئولية كبيرة في هذه القضية، سواء بعدم إهمالها أو بترشيد الحوار حولها، لكن المسئولية الأكبر تقع على عاتق القيادات العربية، من خلال مسئوليتها عن إشاعة الحرية الفكرية، وحماية المفكرين، وقبول الرأي الآخر، ورعاية المجتهدين والمبادرين والمبدعين.
ويتفرع من موضوع الهوية عشرات الموضوعات المتصلة بدوركم وعملكم. وحسبي من هذه الموضوعات، رسالتكم إلى الشباب.
تعلمون أن المجتمعات العربية مجتمعات شابة. أما مجتمعاتنا الخليجية فهي أكثر شبابا. نحو نصف سكان العالم العربي تحت سن العشرين، هؤلاء هم المستقبل. كما يكونون يكون المستقبل. فما هي رسائل الإعلام الموجهة إليهم؟ كيف يحدد الإعلام أولوياته، وكيف يختار برامجه، وكيف يقيس مردودها على القيم والسلوك، وهل يستمع إلى صوت الشباب، وهل يعرف رأيهم. هل لديه رؤية وخطط عمل... أم أن الأمور متروكة على عاتق فضائيات الترفيه؟!
هذه الأسئلة تطول أيضا تعاطي الإعلام مع المرأة وقضاياها، ومع الطفل واحتياجاته، ومع التعليم وأساليبه ومناهجه.
هل تملكون إجابات لهذه الأسئلة؟!
ربما، لكن الإجابات الشافية تحتاج إلى خبرات ودراسات وخطط. من دون ذلك تكون حركة الإعلام خبط عشواء، ويسيطر على أدائه الارتجال والتقليد الأعمى، ويتحول إلى بيئة طاردة للكفاءات. وبالتالي يفقد الإعلام قدرته على المنافسة والوصول إلى ضمائر الناس وعقولهم، وتكون النتيجة فشلا تاما في مواجهة تحديات عصر المعلومات وكل عصر آخر.
تلاحظون أنني تحدثت عن الإعلام العربي عموما، ولم أخص الإعلام الخليجي كما اقترح علي منظمو المؤتمر. وقد قصدت ذلك. ففي عصر المعلومات، يصعب وضع خط فاصل بين الإعلام الخليجي والإعلام العربي. بل ان الخط بين الإعلام العربي والإعلام الأجنبي يكاد أن يتلاشى. كما أن الإعلام الخليجي اليوم هو الأكثر حضورا وتأثيرا في العالم العربي. فأهم قنوات الأخبار على المستوى العربي خليجية، وأكثر القنوات العامة استقطابا للمشاهدين خليجية أيضا، وأهم الصحف والمجلات الموجهة إلى النطاق العربي خليجية، أما الترفيه الفضائي المفتوح والمدفوع فهو خليجي الملكية. وتستقطب وسائل الإعلام الخليجية أهم المفكرين والكتاب والإعلاميين العرب، وزبدة الإنتاج الفكري والفني العربي.
هذه الحال تلقي على الإعلام الخليجي مسئوليات مضاعفة، فالنجاحات التي حققها خلال السنوات القليلة الماضية، مكنته من الحضور والمنافسة بقوة في الفضاء، وجعلت صوته مسموعا في محافل دولية عدة، وهناك من يترصده بسوء نية ويستخدم بعض ما ينشر ويبث للنيل من دول الخليج وقيم وتقاليد أهل الخليج.
بإمكان الإعلام أن يوظف هذه النجاحات في تصحيح الصورة المشوهة عن المنطقة والعرب وا
العدد 866 - الثلثاء 18 يناير 2005م الموافق 07 ذي الحجة 1425هـ