من حسن حظ "عين أبوعليوه" انها حظيت ببعض الاهتمام الإعلامي في الفترة الأخيرة، بعد أن كادت تقضي عليها يد الإهمال، لعل وعسى أن تفلح هذه الجهود في عمل شيء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. والمسألة لو نظرنا إليها من منظور ضيق، فإنها لن تزيد على بقايا قنوات مائية تحت الأرض، كانت تغذي المزارع والبساتين يوم كانت الزراعة مزدهرة في هذا البلد، فلما ولت أيام الزراعة تبعتها القنوات في المصير ذاته. أما إذا نظرنا إليها من منظور أوسع أفقا، وأكثر نضجا، وأكثر إحساسا بالمسئولية، فإنها تدق ناقوس الخطر لتدارك ما بقي من تراث هذا البلد المستباح.
تخيلوا لو كانت مثل هذه المنشآت المعمارية العجيبة موجودة في بلد يحترم تاريخه وتراثه، ألن تتحول إلى مقاصد سياحية "نظيفة" للمواطنين والأجانب، في وقت تعاني فيه المشروعات السياحية من تطبيقات السياحة الشائهة. ألا تستغربون أن الله أعطى لبنان مغارة "جعيتا" التي اكتشفها سائح أجنبي كان يصطاد الطيور في الغابة، فأحسن اللبنانيون استثمارها ليربحوا ذهبا، ونحن عندنا مثل هذه المنشآت البديعة فلا نعرف كيف نستخدمها، وكل همنا ما تدره "سياحة الفنادق"، حتى يخرج المنظرون الاقتصاديون ليفلسفوا لنا ما تصبه هذه الفنادق من إيرادات كبرى في الاقتصاد الوطني!
على أن مثل هذه المسألة ليست بالمهمة الهينة، فهي تحتاج إلى صاحب ثقافة أولا، وإلى من يؤمن بها ثانيا، وإلى حس وطني كبير ثالثا، لا أن يترك الأمر إلى بيروقراطية متآكلة في وزارة الإعلام. من هنا لم يكن غريبا أن يتفاخر وزير إعلام سابق أواخر الثمانينات، بإرسال البلدوزرات لإزالة معبد تاريخي عمره أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، ويزيله من الوجود كأنه يزيل قمامة من أحد الأزقة! وللإنصاف كانت هناك محاولات لإثارة الموضوع في الصحافة آنذاك، ولكن تم استخدام "العصا الغليظة" لترهيب من اقترب من الموضوع.
في السنوات الأخيرة، وفي فترة الانفتاح والإصلاح، تم شق شارع قريب جدا من ذلك الموقع الأثري، وهو ما يمثل تهديدا لما تبقى من أعمدة متهاوية في الموقع المذكور. وكلكم تعرفون ما تم تدميره في خليج توبلي، وقبل عشرة أيام فقط سمعتم عن النية في شق شارع يهدد بإزالة عين "أم السجور"، التي يعود تاريخها إلى أكثر من ألف وخمسمئة سنة. ومن المفارقات أن ينظم الأهالي سلسلة من الاحتجاجات على هذه السياسات التدميرية، في الوقت الذي يصم المسئولون آذانهم عنها، ما يدل مرة أخرى على تقدم وعي الأهالي وإحساسهم بالمسئولية تجاه تراثهم الوطني، بينما يتعطل هذا الإحساس لدى بعض المسئولين عن هذا الجانب التراثي المهم.
إن ما تبقى من "ثقوب في الثوب الأسود" تسبب بها بعض من تحملوا المسئولية سابقا، ينتظر أن تتبنى رتقه الدولة على أعلى المستويات، وضمها إلى المناطق والآثار المحمية، احتراما لتاريخ البلد وآثاره.
الأهالي البسطاء، قاموا بما يقدرون عليه وحملوا اللافتات الاحتجاجية، والصحافة قامت بما تستطيع من دور، وهناك أمل بأن يحدث تحول إيجابي باتجاه حماية تراث البلد وصون ما تبقى منه، مع التغيير الوزاري الأخير في وزارة الإعلام، فالبلد أولى بحماية آثاره، وعدم انتظار المنظمات "الخارجية" المهتمة بالآثار لتوجيهنا بالروموت كونترول لحماية هذه الآثار
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 865 - الإثنين 17 يناير 2005م الموافق 06 ذي الحجة 1425هـ