بعد يومين تنتهي ولاية جورج بوش الأولى لتبدأ الثانية. وفي المناسبة سيعقد حفل تنصيب في واشنطن يقسم فيه الرئيس المجدد انتخابه ثانية يمين الولاء الدستورية. وبعد ذاك الحفل سيبدأ بوش الثاني في تدشين خطواته التي يتوقع لها ان تستمر إلى نوفمبر/ تشرين الثاني .2008
لم ينتظر بوش كثيرا لتوضيح مساره الجديد، فهو بدأ بتغيير طاقمه السياسي والدبلوماسي فور إعلان فوزه استعدادا لاستقبال دورته الثانية من دون "إثقال" وجد فيها معطلات عرقلت مسيرته الأولى. فبوش مثلا اتجه نحو الضغط على الجناح المعتدل نسبيا لتقديم استقالته من مواقع الخارجية ودائرة المخابرات "سي. اي. ايه"، وتعيين فريق متجانس مع سياسته وليس بعيدا عن مناخات الجناح المتطرف في الإدارة.
بوش ببساطة اعتبر أن تصويت الناخب له هو بمثابة اعتراف ضمني بسياسته الخارجية الهجومية "التقويضية" التي ازدادت عنفا بعد ضربات 11 سبتمبر/ أيلول .2001 وكذلك اعتبر أن دعمه الداخلي يؤكد صحة سياسته الاقتصادية والأمنية التي أرهقت المواطنين. فبوش يرى في فوزه مجرد تفويض له لاستكمال ما بدأه، وبالتالي فإن نجاحه هو اشارة إلى صحة المنهج الذي أعلن عنه بعد هجمات سبتمبر وجدد تمسكه به خلال معركة التنافس على الرئاسة مع المرشح الديمقراطي.
بوش الآن نال ورقة تفويض وبات بإمكانه تحميل الناخب الأميركي مسئولية تهوره وكل ما ينجم عن سياساته من خسائر مادية وبشرية واقتصادية ودبلوماسية. فالشعب في غالبيته النسبية "52 في المئة على الأكثر" موافق على المزيد من الكوارث والإجراءات الأمنية الداخلية التي تحد من حريته وخصوصيته.
هذا على الأقل ما يمكن القول إن بوش فهمه من إعادة انتخابه لولاية ثانية. إلا إذا قرر السير عكس التيار وانتهاج استراتيجية مخالفة لتلك التي بدأ بها وأعلن تمسكه بخطوطها العامة في جولاته الانتخابية. فهل ينقلب بوش على نفسه، ويتحول بوش الثاني إلى رئيس جديد يحارب نهج بوش الأول؟ وهل يستطيع بوش الثاني ان يعدل استراتيجيته ويعيد النظر فيها وينقلها من الإطار الايديولوجي المتطرف إلى إطار سياسي برغماتي معتدل؟
كل القراءات لا ترجح ذلك. فمن يكسب ثقة ناخب جلب له رئيسه كل الكوارث لماذا يخيب ظنه به بعد أن اعطاه صوته؟ حتى لو أراد بوش الثاني تهذيب سياساته وتعديلها نسبيا فإنه لا يستطيع فعل ذلك من دون استشارة تكتلات احتكارية مولت حملته الانتخابية واعطته المال والأصوات حتى يستكمل ما بدأه في دورته الأولى. فالمسألة ليست مزاجية أو خاضعة لارادته بقدر ما هي مرتبطة بمصالح شركات الطاقة والنفط ومؤسسات التصنيع الحربي وضغوط الكتلة الاقتصادية التي تتحكم بالسياسة الأميركية الخارجية والداخلية. وهذه الكتلة قريبة جدا من الثنائي تشيني - رامسفيلد الذي يقف خلف بوش ويدفعه دفعا نحو المزيد من التهور والانسياق نحو اوهام ايديولوجية أظهرت الوقائع سلبياتها الكثيرة. فالعالم اليوم ليس أفضل مما كان عليه قبل 11 سبتمبر. والفوضى الأمنية الدولية اسوأ من السابق. وتجربة الحروب أثمرت نتائج عكسية في أفغانستان أو في العراق. ودعم شارون المطلق عطل على واشنطن الكثير من الاحترام وربما التجاوب مع شعاراتها المخادعة "الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان".
الولايات المتحدة اليوم ليست في وضع جيد أو على الأقل أصبحت في موقع أسوأ مما كانت عليه في العام .2000 فالدولار مثلا تراجعت قيمته، وأسعار النفط ارتفعت إلى ضعف ما كانت عليه تقريبا، والموازنة الأميركية تعاني من عجز هائل فاق كل العقود الماضية، وميزان التجارة انكسر إلى حدود غير معقولة ووصل العجز الشهري للتبادل إلى نحو 60 مليارا. وسباق التسلح الذي اعيد اطلاقه لا يعني ان الدول المنافسة "روسيا تحديدا" ستقف متفرجة إلى النهاية.
كل هذه الأمور السيئة تبدو غير مهمة في عقلية التيار الايديولوجي الأصولي "المحافظون الجدد" الذي يسيطر على القرار الأميركي. وحين تكون هذه الأمور ليست مهمة في دائرة البيت الأبيض فمعنى ذلك أن على العالم ان يتوقع المزيد من الكوارث وبالتالي تدهور مكانة أميركا الدولية وسقوطها السياسي المدوي... حتى لو نجحت في كسب المزيد من المعارك والحروب. فما معنى ان تربح أميركا العالم وتخسر نفسها؟
بعد يومين ستبدأ ولاية بوش الثانية ولاشك في انها ستكون فاصلة بين سياسة مجنونة اتسمت بالتطرف وردة فعل على مخاوف مصطنعة وبين سياسة مجهولة النتائج في المستقبل. فالمجنون عاقل أحيانا الا أن مكانه المناسب هو المستشفى لا البيت الأبيض. فلنر أي خيار سينقلب عليه المجنون: العقلانية أم الأمراض العصبية؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 865 - الإثنين 17 يناير 2005م الموافق 06 ذي الحجة 1425هـ