"كل المخاوف من هلال شيعي في المنطقة لا أساس له من الصحة، وإذا كان الحديث عن العراق، فإن المجتمع العراقي في تاريخه الحديث لم يشهد مظاهر طائفية، ولا عنفا أو اقتتالا طائفيا بين السنة والشيعة، وكذلك الحال في دول الخليج.
ليت بعض الأشقاء العرب يرحمون العراق ودول الخليج من الأطروحات الطائفية، مرة بالحديث عن الشيعة وكأنهم جالية أو أقلية وليسوا مواطنين، ومرة أخرى بالنفخ في الخطر الشيعي المزعوم، وفي كلا الحالتين، هناك سوء فهم للواقع، يستحق أن نأخذه بكثير من الرفق وعدم التسرع". "الكاتب أحمد الربعي، صحيفة "الشرق الأوسط"".
يبدو أن العرب وعلى مدى تاريخهم الطويل لا يشبعون مآسيهم التي يمرون بها بمحض اختيارهم أو غصبا عنهم تحليلا وتفكيكا وتركيبا ليستخلصوا منها الدروس والعبر تلو الدروس والعبر؛ وقد يعد السبب في ذلك هو تعلقنا الغريب بتجارب غيرنا ودروسهم وإشباعنا لها ولهم تحليلا وتفسيرا وشتما وتعنيفا. فمنذ نعومة أظفاري التي اقلمها دائما حتى لا أرى فيها سلاحا استخدمه لخربشة وجه من أريد، وليكن تقليمها دلالة على تحضري وإنسانيتي ولكوني من المؤمنين بأن استخدام أي سلاح في مواجهة المخاطر أو غير المخاطر قد يعود على صاحبه بالخطر أولا وأخيرا، المهم هنا ما أود الوصول إليه هو إنا لا نتعلم من الدروس التي يتركها لنا التاريخ على قارعة طرقه وأزقته الكثيرة المتشعبة أو على عتبات بداية حياتنا. كما أن الدروس ذاتها التي يعدها لنا من يتوخى فيهم العلم بالشيء والرجاحة والعقل واستنباط الأحكام والأهداف من تلك المقررات التي يضعونها لنا لكي ننظم إلى فصولها مهما كلفنا ذلك من جهد ومال؛ وعليه فإن الدروس البليغة الذي ظل صدام حسين و"زمرته" و"أعوانه من خارج تلكم الزمرة"، يدرسنا إياها بحماس لم يماثله حماس في كل دروس التاريخ، لم نتعلم منه شيئا، وطبعا لم يتعلم هو قبلنا منها شيئا يذكر أو يسجل في صفحات التاريخ كتجربة إنسانية هدفها رفع شأن الأمة ووضعها في صف الأمم المتقدمة المتطلعة إلى مشاركة الأمم في معالجة الفقر والأمية ومكافحة الأمراض وهدم قصور الطغاة.
المعلم الأول
أول هذه الدروس كان هدفه الأول المعلن عنه هو "سيطرة الحزب" في دولة خرجت للتو بثورة تهدف إلى إصلاح ما أفسده الدهر، علمنا صدام حسين أن آلة الوصول إلى قمة هرم السلطة تبدأ بإطلاق النار والقتل وزعزعة الأمن في الشوارع وتشريد النوم من عيون الأطفال والنساء والكهول، فهو أرانا كيف خطط ضمن منهج "الدرس الأول" "هذه أدبيات حزبية" وهي على وزن "المعلم الأول" إلى قتل الزعيم عبدالكريم قاسم، وعلمنا ان الخطة هذه متى ما فشلت فيجب أن يكون لها مرادف "خطة تقوم مقام خطة" يحمي القائم بها وهذه الخطة تعتمد على الهروب والانسحاب، أي خطوة إلى الوراء أو عشر، لا يهم العدد بقدر ما يهم النجاة بالعظام واللحم والشحم؛ ثم علمنا ضمن خطة الدرس طرق العودة إلى النهج نفسه ولكن على أساس ألا تقوم أنت بنفسك بعملية القتل والتنكيل والتشريد، ولكن تقوم باستخدام آخر عن طريق الجزرة أو العصا، أيهما أقرب وأسرع لتحقيق الغاية المنشودة. فجيء بزعيم آخر يطمح إلى رؤية تحقق الذات ومشروع سياسي آخر على أن يقوم بتحقيق هدف الدرس وقد حققه بجدارة ليس لها مثال في سيلان الدماء على عتبات الدار غير انه وهو المنتشي بمتعة النصر لم يع انه لم يكن سوى عتبة من عتبات السلم التعليمي لصدام.
هنا صدام حسين علمنا درسا آخر، وهو أن لا تظهر للعيان فور طلوع بشائر غليان الطبخة وافتضاح رائحتها في الجو، بل تتأخر قليلا خلف نافذة تطلعاتك على المشهد ككل، وتخرج من بابك حين ما تكون الأبخرة المتصاعدة قد هدأت وتقتنص الفرصة وتأخذ القدر بما حوى وترمي بالطباخ الذي جندته إلى محفلك وعدته إلى مزبلة التاريخ.
بعد الانتهاء من المدخل هنا يبدأ الدرس الحقيقي التخصصي الذي دام خمسة وثلاثين عاما، أسيل فيها كمية لا يمكن أن تقارن بها كمية أخرى على مدى التاريخ من المداد الأحمر الذي يصعب الحصول عليه بيسر وسهولة حتى ذلك المداد الذي سال من إبهامه الأيمن. مداد أحمر نراه كل يوم يسيل على ضفتي دجلة والفرات، وعلى ضفتي شط العرب. مداد أحمر نراه كل يوم على جذوع نخل العراق و"تمن" العراق وتراب العراق. مداد أحمر يمدنا بألم وسهر ليس مثله ألم وسهر لكي نتعلم الدرس، فهل تعلمنا؟
صدام حسين لم يتعب من تعليمنا الدرس تلو الدرس، كان معلما مخلصا لمؤسسته التعليمية غير اننا لم نكن بالطلبة الموهوبين الذين يتعلمون ويبتكرون حلولا وأساليب جديدة للدروس نفسها. كنا طلابا بليدين جدا ولم نفكر مطلقا في كل ما يمدنا به مدرسنا الملهم صدام، ولانزال على الحال نفسه، فقبلنا التجارب الكمياوية التي قام بها في حلبجة ليبرهن لنا مدى خطورة استخدام المواد الكيماوية قبول العانس بعريس اللقطة، ونحرنا لعرسها آلافا مؤلفة من سكان حلبجة، وصفقنا لمعلمنا تصفيقا حارا في السر والعلن حتى والدرس قائم لم ينته بعد.
حفظنا الدرس عن ظهر قلب ورددنا ما جاء فيه في مجالسنا، وصدام حسين شعر بالفخر لما حققه من نجاح في حشو فكرنا بهذا الدرس، وقرر أن يأخذنا إلى أبعد من ذلك في تعلم الدروس. قرر أن يعلمنا خطورة الحروب على البيئة والانسان والحيوان ففكر ولم يحتار فنظر إلى جار من الجيران المشغول في فرح مهيب يشترك فيه كل الناس فقرر شن حرب معه وعليه. استجمع كل ما يملكه من أسلحة وطلب منا المساعدة في تقديم العون لهذه الحرب لحماية البوابة، وأية بوابة هذه، فأعناه بعد أن قال لنا وبصريح العبارة: "إنكم لن تتعلموا الدرس وستصبحون من الجهالة الحمقاء وستضحك عليكم الأمم بسببها إذا لم تشتركوا وتتعاونوا معنا وقد تذهبون ضحية تجاهلكم هذا الدرس المهم". قبلنا برحابة صدر وكان الدرس طويلا جدا وكانت كلفته عالية جدا: ضحايا من كل شكل ومال ليس له حصر أو عدد. غير اننا لم نكن نعبأ بالكلفة فعندنا من المال والعتاد ما لا ينضب أبدا: "الذهب الأسود" الذي سود وجوهنا قبل أن يبيضها. خرجنا من هذا الدرس خروج الأبطال. حملنا معلمنا على الأكتاف وهتفنا باسمه وعلقنا رسمه في كل شارع وزقاق وبيت وفصل دراسي. عملنا له المهرجانات والاحتفالات وأعياد الميلاد. وفي النهاية أقمنا له النصب تلو النصب وأطلقنا على مياديننا اسمه المهيب "صدام حسين".
الهجوم على الطالب الصغير
في خضم ذلك الفرح انتبه المعلم وقد "توهم" ان طلبته قد تعلموا الدروس وقد أصبحوا أهلا الآن بأخذ مقررات تعليمية على مستوى أعلى يقومون بتدريسها أنفسهم بين بعضهم بعضا، فقرر إشراكهم في درس بدا في البداية سهلا جدا، وممتعا جدا، ومردوده كبير جدا على المعلم وتلامذته. كان الدرس يتطلب الهجوم على طالب من طلابه وأقرب أحبائه. فوضع المعلم أسماء الطلبة في سلة وشد عصابة على عين أحد الطلبة ليختار الضحية فجاء اسم الضحية، وكان الضحية صغيرا حجما مقارنة بقياس الطلبة الآخرين ضخما من ناحية الموارد: غنيا.
دام الهجوم على ذلك الطالب أشهرا عدة راح ضحيتها عدد كبير من البشر، ونهبت الأموال ولم تسلم من النهب حتى تلك العلب المخصصة للقطط والكلاب وأحرق "الذهب الأسود" وحوصر بعض من البشر دخل الحدود وترك للبعض الفرار في عز النهار. كان الدرس بليغا ولم يستطع إيقاف الدرس إلا قوة كبيرة من المجتمع الدولي لتجعل المعلم ينسحب إلى مكان تخطيط دروسه إلى قلاعه وقصوره الواهية. الطالب مازال يعاني من التجربة القاسية التي مر بها، ويبدو انه لم يتعلم بعد أو من الصعب عليه أن يتعلم لشدة قساوة الدرس!
ظل صدام على مدى اثني عشر عاما يكتب الدروس ويضع أهدافها المرحلية وأهدافها النهائية، يفشل في بعضها ويربح في بعضها الآخر ربحا سرابيا غبيا. في نهاية الأمر خسر المعلم كل شيء ووجدوه في مكان ليس ككل الأمكنة التي عرفوه بها، مكان لا عتبات له تتهيأ لقادم ولا نوافذ تحمل النسيم العليل أو أبواب تدخل النور إلى حيطانها. لا حراس ولا بنادق ولا شرفات يطل منها القائد متقلدا سيفه أو رمحه أو بندقيته؛ وقد يتساءل بعض منكم: "أين هذا المكان؟" انظروا إلى صور التاريخ التي انغرست في كيان الأمة كوصمة من الوصمات التي لا نقوى على ذكر مسماها هنا.
من المخجل والمحزن حقا في آن، أن نختزل تاريخ العراق كله في شخص مثل صدام، ونتركه في مهب الريح حتى وإن كنا نسمع الصوت العراقي يشدو: "العراق ما ينخاف عليه، إحنا أهله"، بل من المحزن والمخجل حقا أن ننسى كل صفحات التاريخ الناصعة كشعاع الشمس، وننسى تلك الصفحات الدموية ولا نتذكر سوى "المعلم" الذي لم يتعلم بعد على رغم كل الدروس القاسية والمؤلمة في تاريخ العراق والأمة العربية والإسلامية.
المعلم الآن ينتظر محاكمته التاريخية في مكان ما، يأكل البسكويت والبيتزا والفطائر والسمك المدخن ولحم الخراف العربي والدجاج المربى على أفضل الأطعمة ولحم البقر غير المصاب بجنون البقر، ومحروم من التمن بالبامية خوفا من أن يدس له السم كما دسه لرفاقه من قبل.
ننتظر المحاكمة لا الهلال الشيعي!
إلى جانب ذلك نحن كأمة ننتظر، غير اننا لا ننتظر محاكمة "صدام حسين" على أحر من الجمر كما هم المكلفون والمتطوعون بالدفاع عنه وعن مآسيه ودروسه وأحلامه الكابوسية التي أزعجتنا أكثر مما أزعجته، نحن ننتظر أن يخرج العراق مما هو فيه ويتعافى من كل الجروح وخصوصا الجروح النفسية التي لا يعرف لها علاج بعد إلا الصبر والزمن. ننتظر خروج العراق من محنته كما يخرج علينا هلال رمضان وهلال العيد لنفرح، لا كما زعم الزاعمون ننتظر خروج "الهلال الشيعي".
لنكن أكثر انتباها لمقولاتنا ولنرصد الهلال الذي نريد خروجه رصدا علميا لنفرح، لنفرح فيكفينا حزنا ودما ودموعا، ولننتبه جيدا لتلك الدعاوى التي تريد أن تجعل عيدنا عيدين ولكل فئة منا هلالا خاصا لعيدها. على الشبكة هناك ما يقارب من تسعين ألف موقع له شأن بالهلال، منها ما هو رياضي "نادي الهلال" ومنها ما هو ديني "ثبوت الهلال" ومنها ما هو سياسي جغرافي "الهلال الخصيب" ومنها ما له علاقة بالطعام وخصوصا الخبز، ومنها خاص بالمنتديات ومنها ما هو تجاري "مؤسسة الهلال، إسمنت الهلال" وهناك "برج الهلال" في السودان كموقع.
إشارة ختامية، من بين المعاني الكثيرة للهلال في القواميس العربية انتقينا الآتي لنضعها هنا للتمعن فيها لاغير: "الهلال: أول المطر؛ نزل الهلال أمس". إي انه إشارة خير وبركة. "الهلال: غرة القمر الى سبع ليال من الشهر"، أي إنه يافع عديم الخبرة غير انه جميل الطلعة. "الماء القليل في أسفل البئر"، أي مختلط بالتربة والأوساخ. الهلال: "طرف الرحى إذا تكسر" نرجو ألا تكسر الرحى العربية. الهلال: "شعار الدول الإسلامية منذ دولة بني عثمان"، إنه إذا هلال سني بلا منازع. الهلال: شعار "الهلال الأحمر" المؤسسة القائمة على فعل الخير ومساعدة الناس. والهلال: "الجمل المهزول من ضراب أو سير" ربما هو إشارة إلى العراق بما جرى له. الهلال: الحية، نرجو ألا يصيبنا سمها. الهلال: الحية إذا سلخت. نرجو أن تنسلخ عنا هذه الكربة. الهلال: الغبار. الهلال: "شيء تعرقب به الحمير". وختاما سمي الهلال هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم للإخبار عنه "لسان العرب"، يبدو أن الأصوات التي ارتفعت في الآونة الأخيرة لم تر الهلال هلالا بل شبه لها ذلك وكان سرابا. نرجو أن يكون ذلك.
نرجو أن تكون دروس صدام حسين البليغة وأهدافها موضوعة على الطاولات الآن لتفحصها من جديد والاستفادة منها حتى لا نسلط أسواط الظلم والقهر والعفن من جديد على شعوبنا مهما كانت إنتماءاتهم الفكرية والروحية. أرجو أن نكون على مستوى من الرقي والحكمة والعقل وعندنا قليل من الصبر لتتضح لنا الصورة ونرى الهلال بدرا مكتملا يشع نوره على الجميع من دون تمييز
العدد 864 - الأحد 16 يناير 2005م الموافق 05 ذي الحجة 1425هـ