أكد المراقبون الاوروبيون الذين تابعوا الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، ان الانتخابات الفلسطينية "يمكن ان تشكل نموذجا لآخرين في المنطقة"، واضاف رئيس بعثة البرلمان الأوروبي التي شاركت في مراقبة الانتخابات ادوارد مكميلان سكوت "نعتقد ان الشعب الفلسطيني. .. يجب ان يكون فخورا". واضاف "على رغم الاحتلال الاسرائيلي وصعوبة التوجه الى صناديق الاقتراع بالنسبة الى سكان القدس الشرقية وغيرهم، فإن هذه الانتخابات تمهد الطريق امام الانتخابات التشريعية في يوليو/ تموز المقبل، ويمكن ان تشكل نموذجا بالنسبة الى آخرين في المنطقة".
والحق فإن التقييم الأوروبي للانتخابات الفلسطينية، لا يتجاوز اقرار وقائع ما حصل في الانتخابات الفلسطينية، والتي عكست - من دون الدخول بما يحيط بالوضع الفلسطيني من اشكالات - حالة فلسطينية مميزة من حيث رغبة الفلسطينيين في خوض تجربة ديمقراطية لانتخاب رئيس للسلطة الفلسطينية على رغم ظروف الاحتلال الاسرائيلي وما يحيط به من ترديات أمنية وسياسية ومعاشية، تلقي بظلالها الكثيفة على حياة الفلسطينيين، وكلها لم تمنعهم من تعددية المرشحين وبينهم مرشح السلطة - التنظيم الام حركة فتح، ولم تحظر عليهم اعلان برامج انتخابية، توضح على نحو جلي مواقف وآراء المرشحين في الموضوعات الفلسطينية الحامية والحساسة، وصولا إلى تسارع الجمهور الفلسطيني نحو مراكز الاقتراع لاختيار من يرونه مناسبا لتولي رئاسة السلطة الفلسطينية في المرحلة الحالية.
بذل الفلسطينيون جميعا ومؤسساتهم جهودا ملموسة من اجل صورة افضل للديمقراطية، وهذا لا يعني ابدا انه لم تكن هناك اخطاء حدثت، وخروقات ارتكبت، لكنها ظلت محدودة في ضوء تواضع تجربة الديمقراطية الفلسطينية ومحدودية خبراتها. لكن أهم التأثيرات على تجربة الانتخابات الفلسطينية، كانت نتيجة ممارسات الاحتلال الذي منع وأعاق وصول الناخبين إلى مراكز الانتخابات، وكان في هذا الجانب لا يمنع المشاركة في التصويت فقط، بل آثر على الاصوات التي ذهبت إلى هذا المرشح أو ذاك، وربما حاول من جانب آخر الايحاء بمحدودية المشاركة الفلسطينية، ولجميعها اهداف اسرائيلية واضحة.
وتمخضت الانتخابات الفلسطينية عن نتائج ربما كانت غير متوقعة، اذا فاز المرشح الاول وهو مرشح الرسمية الفلسطينية وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية، التي هي المرجعية الرئيسية للفلسطينيين بما يزيد قليلا عن 60 في المئة من الاصوات، ثم تلاه مرشح مستقل يمثل واحدة من منظمات المجتمع المدني فحصل على نحو 20 في المئة من الاصوات، فيما توزع البقية من المرشحين المستقلين ما تبقى من الاصوات.
والحق فإن مسار العملية الانتخابية الفلسطينية ونتائجها، كرس تجربة تستحق التوقف عندها في المستوى العربي. ذلك انه وللمرة الاولى في الواقع العربي المعاصر، تعطى فرصة عملية لمرشحين من خارج المؤسسة الرسمية القابضة على السلطة للدخول في معركة انتخابية على منصب الرئاسة. اذ غلبت في السابق حالات الاستفتاء على منصب الرئاسة، وفي الحالات التي جرت فيها انتخابات، كان يتم ترشيح شخصيات ضعيفة وغير جدية في مواجهة المرشح الرئيسي.
وبخلاف النقطة السابقة، فإنه وللمرة الاولى، يصل فيها مرشح للرئاسة إلى هذا المنصب بأصوات تزيد قليلا عن 60 في المئة، فيما اعتاد العرب في استفتاءاتهم وانتخاباتهم لهذا المستوى على نسب تكاد تكون 100 في المئة بالنسبة إلى الاستفتاءات، وأقل من ذلك بقليل في حالات الانتخاب.
اعطت الانتخابات الرئاسية الفلسطينية على رغم كل ما احاط بها من تفاصيل فرصة للفلسطينيين لتأكيد رغبتهم بالديمقراطية طريقا من طرق متابعة نضالهم من اجل حقوقهم الانسانية والوطنية على رغم الاحتلال ونتائجه، وعلى رغم ترديات افرزتها مسيرة السلطة الفلسطينية في الاعوام العشرة الماضية، وهو ما سيترك أثره واضحا في المعارك الانتخابية اللاحقة في مستوياته المحلية والقطاعية أو الوطنية، كما في الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية المقبلة.
درس الانتخابات الفلسطينية الأبعد، يبدو في اعتبارها مثالا بين امثلة، تؤخذ في الاعتبار في البلدان العربية، التي تستعد لانتخابات من سويات مختلفة مثل العراق ولبنان ومصر، أو تلك التي ستدخل الانتخابات في وقت لاحق، لاسيما من حيث الحق في توافر فرص حقيقية للترشيح والانتخاب، وتوفير فرص للدعاية الانتخابية وفق برامج سياسية واجتماعية من دون قيود، وتأمين مراقبة تكفل نزاهة الانتخابات وعدم التدخل الرسمي فيها لصالح مرشح معين، ثم اعلان النتائج بكل شفافية ووضوح، وقبول الاطراف فيها من دون تردد طالما توافرت لها الأجواء المناسبة.
الفلسطينيون في تجربتهم الديمقراطية للانتخابات الرئاسية، اذ يقدمون مثالا للعرب، فإنهم يتابعون سلسلة من الامثلة، التي قدموها في التاريخ الحديث والمعاصر، بعضها حازت على اهتمام العرب، وصارت بين تجاربهم، وبعضها تم اهماله. لقد قدم الفلسطينيون في تاريخهم امثلة كثيرة، لعل الأبرز فيها قدرتهم على الخروج من واقع التشرد والشتات ودمار الوطن وغيابه بعد العام ،1948 وقد اعادوا تأكيد وجودهم وحقهم في وطنهم على الخريطة السياسية للمنطقة بعد اقل من عشرين عاما على هزيمة ،1948 وقدم الفلسطينيون مثالا آخر في خوضهم الحرب ضد الاحتلال الاسرائيلي على مدار عقود من السنوات، كما قدموا امثلة في مواجهة الاحتلال في أقسى الظروف، ثم قدموا مثالا على الانتقال من "الثورة الى الدولة" وخصوصا بعد اتفاقات اوسلو ،1993 ومثالهم الأخير كانت في الانتخابات الرئاسية
العدد 864 - الأحد 16 يناير 2005م الموافق 05 ذي الحجة 1425هـ