بالمصادفة زرتها يوم الخميس الماضي، بمعية الزميل هاني الفردان وبصحبة مبارك أمان "وزارة البلديات" وزهير الدلال "بلدية الشمالية". كنت أتخيل في ذهني أنني سأرى مجرد عين جافة تحت الأرض، ننزل إليها على درج عبر تجويف مائي، ولكن ما شاهدته على الأرض يختلف، فتمنيت لو أن كل مواطن بحريني يحصل على فرصة لزيارتها ليرى بعينه عملية اغتيال تراث هذا البلد، أو ما تبقى منه.
العين ليست مجرد عين كانت تضخ الماء حتى مطلع الثمانينات، فلما انخفض منسوب المياه جفت، وإنما هي نظام متطور للري الزراعي لمنطقة الشمال الغربي من جزيرة البحرين الأم، تغطي منطقة من سار وتنتهي في البحر مرورا بقرى المرخ وبني جمرة والجنبية والقرية. وهناك من يقول انه يبدأ من عين عذاري ويمر بقرية "أبوقوة" حتى هذه المنطقة، وهو ما يحتاج إلى دراسة تخصصية تقطع الشك باليقين. الخبير مبارك أمان طرح احتمال أن يكون هذا النظام راجعا للفترة الإسلامية، وإن لم يستبعد أن يعود في الأصل إلى الفترة الدلمونية، ولكن جرى تطويره في الفترة الإسلامية.
في الذاكرة الشعبية، يعود هذا النظام إلى فترة القرامطة، بحسب أحد سكان المرخ نقلا عن كبار السن في قريته، وهي رواية تحتاج إلى توثيق من قبل دارسي التاريخ والآثار، وخصوصا البحرينيين. وربما لن نعدم من الباحثين "الايديولوجيين" من يذهب إلى تبني هذه المقولة، لما هو سائد في الأذهان عن تاريخ القرامطة "الاشتراكي"، ولكن التاريخ لا يمكن كتابته على أسس عاطفية أو أحادية الجانب، بطبيعة الحال، فالتاريخ إنما هو طبقات متراكمة من الحضارات والدول المتعاقبة، وليس حصرا على دولة أو حقبة من الأحقاب.
الأرض تبوح بأسرارها
وفيما كنت أطوف بـ "الثقوب"، الموزعة على قسمين: في أرض خاصة ومزرعة خاصة، تذكرت الأفلاج في سلطنة عمان، التي لاتزال تعمل حتى الآن في نظام الري الزراعي هناك، بينما زراعتنا ماتت أو اغتيلت على يد المطامع قصيرة النظر. واليوم نحن أمام "تحفة وطنية" من الخطأ ترك ما تبقى منها يندثر ويطمر تحت عجلات البلدوزرات الرأسمالية، الحديدية والبشرية على حد سواء!
المهم، إن ما تبقى منها عبارة عن عدة فتحات ترتفع قليلا عن الأرض، على مسافات متساوية بهدف الصيانة والتنظيف بحسب كلام الخبير، وتربط بين القنوات الأرضية الممتدة لمسافات طويلة. النظام المعماري في الأسفل على هيئة "أقواس"، مبني من الصخور البحرية "الفروش"، يصل بينها مادة "الجص"، وهي مادة صنعها سكان هذه الجزر منذ القدم. إذن نحن لسنا أمام ثقوب وفتحات مغطاة بقطع من الأخشاب أو الحديد، وإنما أمام جزء ثمين من التاريخ الذي ينبغي المحافظة على ما تبقى منه، وهي مسئولية وطنية على الدولة بالدرجة الأولى تبنيها، وهي مهمة عاجلة لا تنتظر التأجيل أو التسويف والمماطلة.
إذا حاولت أن تستنطق هذه البقايا من نظام الري، فلابد أن تصل إلى عدد من النتائج العلمية المهمة، وهي أن البلد بلد حضارة قديمة، سواء سلمنا أن هذا النظام إسلامي أو دلموني، لم يخل في فترة من الفترات من حكومة مركزية تنظم أمور الناس فيه. ثم أن مثل هذه المشروعات تدل على انه بلد مزدهر، له من الإمكانات الاقتصادية والبشرية والمادية ما يؤهله لإقامة مثل هذه البنية التحتية الصلدة. ثم انه بلد به سلطة مركزية قوية، تجبي الضرائب وتخطط وتنفذ مثل هذه المشروعات الاستثمارية بعيدة المدى، "على عكس النظرة السائدة في عصرنا بالجري وراء الربح السريع حتى لو أدى إلى تدمير الزراعة والبيئة والإنسان". ثم انه يدل على وجود كفاءات وقدرات ذات مستوى علمي متقدم في الهندسة، تؤكدها هذه المسافات المتساوية بين كل فتحة وأخرى، كما تدل عليها كلمة سمعتها من الخبير: "إن مخططي هذه القنوات لم يكونوا ينتظرون الماء ليصلهم وإنما كانوا هم يذهبون إلى الماء".
هذا بعض ما تهمس به هذه الفتحات في أذنك، فتشعرك بالثقة بالنفس في هذا البلد وأبنائه، وبأن المستقبل ليس أسود بالضرورة، كما يحاول دائما أن يصوره لنا البعض. فالبلد زاخر بالكفاءات والقدرات، ولكن متى تعطى هذه الكفاءات الوطنية فرصتها لإثبات وجودها وبناء وطنها؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 864 - الأحد 16 يناير 2005م الموافق 05 ذي الحجة 1425هـ