انتهى الجانب السهل من مهمة الرئيس الفلسطيني الجديد محمود عباس "أبومازن". فالانتخابات جاءت لصالحه مهما حاولت الفئات المقاطعة تبرير النتائج والادعاء بأن الفائز أخذ أقل من نسبة 50 في المئة من مجموع الأصوات الفلسطينية. فالحسبة ليست صحيحة لأن الفئات التي رفضت التوجه إلى صناديق الاقتراع لا تحسب في التعداد العام. عباس فاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة عالية وصحيحة وغير ذلك يعتبر مجرد محاولات لرد الاعتبار أو لتبرير قرار غير صحيح في أساسه.
انتهى الجانب السهل وبدأت الصعوبات تواجه عباس حتى قبل أن يقسم اليمين الدستورية. وتركزت على جانبين: أمني وسياسي.
أمنيا شنت "إسرائيل" هجمات عدوانية طاولت المناطق السكانية والمخيمات واعقبتها بحملة اغتيالات جوية وبرية ذهب ضحيتها عشرات الضحايا من شهداء وجرحى. هذه الهجمات والحملات ليست جديدة فهي سياسة "إسرائيل" منذ تشكيلها كدولة ولكن الجديد فيها أن حكومة الرأسين "شارون وبيريز" ارادت منها اختبار ميزان القوى وفحص نوايا عباس بشأن تصريحات عن رفض "عسكرة الانتفاضة". فحكومة الرأسين كانت تعلم سلفا بان عدوانها لن يمر من دون رد، وهي فعلا انتظرت الرد الفلسطيني حتى تتذرع به وتبتز عباس وتحشره في زاوية تصريحاته السابقة.
الرد الفلسطيني على هجمات حكومة الرأسين هو موقف طبيعي ويمكن ادراجه في خانة حق الدفاع عن النفس. والسكوت في هذا الإطار لا فائدة منه مادامت سياسة "إسرائيل" تقوم على فكرة سخيفة وهي "انه يحق لها فعل ما تريده ولا يحق للمظلوم ان يدافع عن نفسه" وإذا دافع عن حقوقه الشرعية يتهم بالإرهاب وتقويض "خريطة الطريق".
الفكرة الإسرائيلية السخيفة في فلسطين يكررها الاحتلال الأميركي في العراق يوميا وتقوم أيضا على منطق اعوج وهو "انه يحق لواشنطن اتهام أي دولة من دون اثبات واجتياح تلك الدولة بالكيفية التي تريدها ولا يحق لشعب تلك الدولة ان يرد أو يدافع عن نفسه". وإذا فعل تتهمه الإدارة الأميركية بالإرهاب وتخريب "النموذج الديمقراطي الجديد" في منطقة "الشرق الأوسط".
"إسرائيل" التي تقودها الآن حكومة برأسين كانت تدرك سلفا أن المقاومة الفلسطينية سترد عسكريا على هجماتها وحملاتها وهي أصلا خططت لمثل هذا الأمر لتحشر عباس في زاوية مطالبها وشروطها قبل تحديد موعد اللقاء مع شارون. وبكلام مبسط تشترط حكومة الرأسين من عباس ان يرتكب مجزرة بحق شعبه ويجرد حملة عسكرية داخلية لا يعرف تداعياتها... وبعدها توافق "حكومة الشرين" على تحديد موعد للقاء به لبحث طبعة جديدة من تلك التي اطلق عليها "خريطة الطريق".
المسألة إذا تتعلق بالاختبار ومدى نجاح عباس في المرور في الامتحان. ويبدو أن عباس لن يمر بسهولة بعد أن تردد في تلبية مطالب "إسرائيل" ولم يسارع إلى تنفيذ شروطها والبدء في تجريد الانتفاضة من سلاحها وشن حملة تصفيات ضد المناطق والقرى والأحياء السكنية دفاعا عن احتلال "إسرائيل" للأراضي الفلسطينية.
هذا هو المنطق الاعوج الذي تقوده "إسرائيل" بدعم واشنطن وتشجيعها على ارتكاب المزيد من التجاوزات حتى تقفل كل الطرق على تلك "الخريطة" التي باتت بحاجة إلى خرائط لتوضيح خطوطها وتشعباتها.
عباس لاشك يمر الآن في وضع صعب ولا يحسد عليه. فهو من جهة أسير الاحتلال وشروطه المذلة وأساليبه المتعجرفة وهو من جهة أسير انتفاضة تطرح خطة عمل دفاعية لا تخرج في بيانها العام "مطالب الحد الأدنى" عن مجموع القرارات الدولية وتلك الاتفاقات التي وقع عليها الرئيس الراحل ياسر عرفات.
هذا هو الجانب الأمني من المعادلة الصعبة التي يمر بها الرئيس عباس. اما الجانب السياسي من المسألة فهو يتلخص بمعضلة "الديمقراطية" في دول تتعرض للاحتلال. فالديمقراطية في بلد حر ومستقل وذي سيادة يمكن أن تتكيف مع أعراف المجتمع ودستور الدولة والقانون. ففي تلك الدول يستطيع الحاكم أن يقول إنه يحترم التعدد السياسي ويرفض تعدد الوسائل العسكرية. بكلام آخر يستطيع أن يردد ما قاله عباس في خطاب القسم عن احترام اختلاف الآراء ورفض الخروج "المسلح" على القانون. إلا أن مثل هذا الكلام يصعب تطبيقه في بلدان تتعرض للاحتلال "العراق" أو الاستيطان "فلسطين" لأن الحاكم لا يستطيع منع الناس من المقاومة. فالمقاومة حق شرعي تنص عليه الدساتير الدولية والمعاهدات والقوانين وشرط توقفها ليس نشر الديمقراطية وانما سحب جيوش الاحتلال وجموع الاستيطان من الدولة.
هذه معضلة عباس فهو رئيس منتخب شرعيا وديمقراطيا من الناس ودولته تتعرض للاحتلال الدائم والعدوان المستمر... وبين الديمقراطية والمقاومة هناك ما يشبه التطابق لا التعارض. فالديمقراطية ليست نقيض المقاومة وانما الوجه الآخر لها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 864 - الأحد 16 يناير 2005م الموافق 05 ذي الحجة 1425هـ