مرة أخرى يتكرر المشهد - التحدي مع أبومازن، فهو من جهة، أمام رزمة التعجيزات الأميركية - الاسرائيلية نفسها. ومن جهة ثانية هو أمام مقاومة عجز حتى الآن عن وقفها. وعليه بدا الرئيس الفلسطيني الجديد وكأنه بحاجة الى معجزة ليتجاوز التعجيز والعجز من دون ان يتسبب بكسر الماعون الوطني الفلسطيني، ان لم يكن بنحره. فهل يقوى أم ينتهي الى الاستقالة والانسحاب؟ هل يندفع هذه المرة - بعد عرفات الذي ربما جرى تغييبه لتسهيل مهمة الخلف - الى حيث لم يندفع في السابق؟ أم انه يجترع معادلة وسطية تلقى الدعم وتكون المخرج ولو مؤقتا من المأزق؟
قبل حوالي سنتين كان أبومازن في المقعد نفسه، يومئذ وضعته إدارة بوش وحكومة شارون أمام خيار اختراق الخطوط الفلسطينية الحمراء وإلا المغادرة فغادر... واليوم يواجه السيناريو نفسه مع فارقين:
1- في التجربة الأولى كان في موقع رئاسة الحكومة، الآن هو في موقع الرئاسة الأولى.
2- وآنذاك كان "الختيار" يمسك بخيوط القرارات الكبيرة. اليوم بعد رحيله، القرارات بيد الرئيس الجديد. فهل تلعب هذه الفوارق دورها في تقرير الخيارات بصورة مغايرة عن السابق؟
لن يمر وقت طويل قبل ان يتبين الأبيض من الأسود في هذا الخصوص ذلك ان اللحظة ضاغطة من كل الجوانب والتطورات متسارعة، ولا تترك للمعنيين شرف شراء الوقت، فالانسحاب الاحادي الاسرائيلي من غزة بات على الابواب، والإدارة الاميركية في شبه مطاردة يومية للرئيس الفلسطيني لحمله على اتخاذ خطوات أمنية رادعة بزعم ضبط الساحة. و"إسرائيل" تواصل تصعيد عدوانها المتعدد الاشكال وتعلن عن عزمها على هدم حوالي 3 آلاف منزل في رفح بذريعة انها تنوي حفر خندق واسع على الحدود مع مصر، بعد الانسحاب من غزة. وفي الوقت ذاته تصاعدت المقاومة الفلسطينية كما ونوعا في الأيام الأخيرة.
ضمن هذه المعطيات يتحرك أبومازن والمطلوب منه ان يرضي جميع اللاعبين، كمن يطلب منه المشي بين حبال المطر من دون ان يتبلل. وتحديدا هو مطالب أميركيا واسرائيليا بتلبية الشروط بصورة مسبقة وعاجلة، من غير ملاقاته في منتصف الطريق، حتى لا نقول من غير تسليفه أية تقديمات. وليس خافيا على أحد أن نجاح خيار التسوية السلمية - اذا كان هناك امكان للنجاح - مرهون الى حد بعيد بتسهيل مهمة أبومازن، وخصوصا تسهيلها من جانب الراعي الأكبر، الذي يزعم بانه ملتزم برؤية دولة فلسطينية، على اساس "خريطة الطريق" الى جانب "إسرائيل"، فمن دون الضغط على "إسرائيل" للبدء بإزالة الاحتلال باعتباره اساس العلة، لاحظ لاي مشروع سلام بالحياة.
ما الذي فعله هذا الراعي حتى الآن؟ بعد رحيل "أبوعمار" سارعت إدارة الرئيس بوش وبالتناغم مع الخطاب الاسرائيلي الى ترويج مقولة ان اللحظة باتت سانحة وان هناك الآن "فرصة تاريخية" للتحرك نحو السلام!
تكرر هذا الكلام على غير انقطاع في الخطاب الاميركي الروسي والاعلام منذ ذلك الحين، وكان المقصود منه توجيه وتعميم رسالتين الأولى ان عرفات - وليس "إسرائيل" - كان العقبة في طريق التسوية!
الثانية ان المطلوب من الفلسطينيين المجيء بقيادة بديلة قادرة ومستعدة لتلبية الشروط الاسرائيلية - الاميركية، يعني على استعداد لشطب القوى الفلسطينية، الممانعة باعتبارها قوى ارهابية، وصفة واضحة صريحة لاشتباك أهلي، ولم تكف واشنطن عن الضغط بهذا الاتجاه على رغم التحذيرات العربية والأوروبية - حسبما تردد - من عواقب مواصلة حشر أبومازن بالزاوية. في آخر مقابلة أجرتها معه قبل ثلاثة ايام "وول ستريت جورنال" كرر الرئيس بوش المعزوفة الضاغطة نفسها، فقال "ان على السلطة الفلسطينية تعزيز قوات الأمن حتى تقوى على كبح القلة التي لاتزال تحمل الرغبة في تدمير "إسرائيل"، وكأن الخطر الماثل الآن يهدد "إسرائيل" ووجودها وليس الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال.
كما أوضح مرة أخرى وحتى لا يكون هناك أي التباس بأن "مساعدة واشنطن للفلسطينيين تتقرر - أي مرهونة - في ضوء مواقف أبومازن كما في ضوء تقدم الأمور" ترجمة ذلك: تقدم ضرب السلطة للفصائل الاخرى، واذا كان الرئيس تعمد الضبابية فإن الوزير باول في حوار مع قناة "فوكس نيوز" أمس الاول شدد على ان "المواقف وحدها لا تكفي. المطلوب - من أبومازن - خطوات عملية".
في مقابل هذا الخطاب المكرر تذكر إدارة بوش وبلغة خجولة مطاطة، "إسرائيل" بأن "عليها ان تبقي نصب عينيها الرؤيا لدولتين"! لكن أية دولة فلسطينية تتحدث عنها؟ لا جواب، واذا انحشرت واشنطن تقول إنها الدولة التي يتم التفاوض والاتفاق بشأنها! وامعانا في التمييع والتضييع يقول الرئيس في مقابلته انه "ينبغي على "إسرائيل" المساعدة في تطوير دولة فلسطينية"! أليس في ذلك ضحك على الذقون او استغباء للناس؟ كل ما أعطاه للفلسطينيين حتى الآن هو موافقته على "المساهمة في نجاح مؤتمر لندن" الشهر المقبل لتحريك عملية السلام! وكأن هذه العملية بحاجة الى المزيد من المؤتمرات لم تشبع منها بعد؟
من ناحية ثانية أدت مطاردة أبومازن بالضغوط من دون وضع شيء بيده ليتسلح به الى تعزيز موقف وطرح الفصائل المقاتلة وتحديدا حماس والجهاد. فهي من الاساس تتحصن بمقولة انه ما دام الاحتلال قائما فإن مقاومته مشروعة وهي معادلة ثابتة تاريخيا وليس من السهل دحضها.
زاد من قوتها ان أبومازن تسرع وطرح باكرا خلال حملته الانتخابية شعار "وقف عسكرة الانتفاضة" من غير ان ينال شيئا - ولا حتى الشكر - من واشنطن وتل ابيب في المقابل.
تبرعه المبكر بموقف مجاني كان من المفروض مناقشته أولا، داخل الخيمة الفلسطينية والتوصل الى تفاهم مشترك بشأنه، فتح قابلية بوش وشارون لمطالبته بالمزيد لناحية ترجمة هذا الشعار على الأرض، وزادت من انكشافه مسارعته الى اعلان تراجعه بصيغة اعتذار مبطن، عن استخدامه لعبارة "العدو الصهيوني" التي كانت تلفظ بها في لحظة انفعال مشروع ردا على سقوط سبع ضحايا ذلك اليوم على يد قوات الاحتلال الاسرائيلي. قامت الدنيا ولم تقعد عليه في واشنطن وتل ابيب وكأنه كفر، أو كأنه كان عليه ان يستخدم في تعقيبه على الجريمة عبارة "الصديق الودود" عن "إسرائيل".
فاقم ذلك من صعوبة حركته وارتباكها ومن توسع الهوة بينه وبين الاطراف الأخرى على الساحة الفلسطينية بدلا من ان يجري تضييقها لتأمين تحالف واسع يمكن الاستقواء به والتفافه حول صيغة مشتركة ولو بالحد الأدنى الآني. وبنتيجة ذلك دخلت السلطة مع تلك الاطراف - خصوصا حماس والجهاد - فيما يشبه لعبة العض على الاصابع، السلطة تلوح وتحذر بضبط الساحة الداخلية فترد الفصائل بأن الرئيس الفلسطيني لا يملك حق الدعوة الى وقف اطلاق النار، لأنه لا يملك التفويض باسم كامل الصعب الفلسطيني، واذا تواصلت هذه اللعبة وخرجت عن السيطرة تحت ضغط واشنطن و"إسرائيل" من جهة وضغط عمليات المقاومة من جهة أخرى، فإنها تهدد بالانزلاق الى الاحتكاكات ثم صراعات فلسطينية تنذر بتداعيات داخلية خطيرة صحيح ان الساحة الفلسطينية أثبتت انها محصنة الى حد بعيد ضد وقوعها في شرك الاقتتال الأهلي، لكن اللحظة الراهنة مشحونة بعوامل تفجير قوية وجاهزة للاشتعال وخصوصا ان صمام الامان الذي كان قادرا على تعطيل صاعق الانفجار غاب ثم ان المشروعين المتناحرين على هذه الساحة - السلمي المراهن على المجتمع الدولي وعلى اسلوب التفاوض من جهة ونقيضه المراهن على المقاومة المسلحة لوحدها - يقتربان من نقطة اللاعودة كل في اتجاهه، بالنهاية كل منهما يرى في الآخر خصمه اللدود، وان كان من المستبعد ان ينغمس أبومازن بقرار منه في مواجهة دموية فلسطينية - في ضوء سوابقه - الا ان هناك خطر انجراره وزجه رغما عنه في مثل هذه المواجهة، فثمة قوى فلسطينية جاهزة للدخول في عملية حسم من هذا النوع. أو هكذا هي توحي، ربما كتكتيك تستخدمه لتوفير مناخ يحمل القوى المعينة على القبول، في نهاية المطاف، بهدنة، مريرة ضمنية أو معلنة، تكون هي المخرج وفي الوقت ذاته المدخل لاستئناف "عملية السلام" هذا اذا كان بقي منها شيء على قيد الحياة، على رغم الضجيج بشأن "الفرصة التاريخية" السانحة الآن، كما يزعمون سيما وان هناك سابقة من هذا النوع، ايام حكومة أبومازن الاولى يضاف الى ذلك ان قوى الخيار العسكري اعطت اشارات وتلميحات في الآونة الأخيرة عن استعدادها المبدئي للبحث عن تدبير من هذا النوع.
بعض مصادرها قالت في أكثر من مناسبة إنها على استعداد للنظر في "أساليب" المقاومة شرط عدم المساس بمبدأ الحق في المقاومة ضد الاحتلال. وهي معادلة يمكن ايجاد صيغة تحقق التوازن بين طرفيها، فهذه القوى تعرف مدى قوتها وحجمها المحدودين على الساحة والانتخابات والأخيرة كشفت ذلك، اذ على رغم دعوتها لمقاطعة الاقتراع وصلت نسبة الناخبين إلى 66 في المئة وهي تتقن اللعبة السياسية وليست انتحارية وربما هي تدرك ان التعامل مع قيادة أبومازن افضل من التعامل مع غيره. على الاقل لانه سبق ورفض كسر المحرمات، ولأن الآخرين ربما كانوا اكثر اندفاعا نحو المواجهة.
هل يفلح أبومازن في اقناع هذه الاطراف لاعطائه "الفرصة" وهو المفترض ان يكون مدركا ايضا لحدوده ولنقاط ضعفه؟ وحتى اذا أفلح هل يتخلى شارون عن وضع العصى في دواليب أبومازن وهو المتربص بكل فرصة حلحلة لنسفها واعادة الامور الى المربع الاول؟ أم ان صحوة نورانية قد تهبط على بوش لحمله على لجم شارون؟ وبيت القصيد هل يسلم أبومازن من الفشل وفي الوقت ذاته من التوريط؟ تلزمه حزمة عجائب ومعجزات لعبور هذه الانفاق الملغومة بسلام
العدد 863 - السبت 15 يناير 2005م الموافق 04 ذي الحجة 1425هـ