قال السيدمحمد حسين فضل الله خلال خطبة صلاة الجمعة: إن فلسطين دخلت في المتاهات الدولية وفي دوامة التبريكات للانتخابات الرئاسية، وفي التصريحات الأميركية التي تدعو إلى سياسة فلسطينية متوازنة في محاربة الإرهاب - كما تسميه - بتفكيك منظمات الانتفاضة ونزع سلاحها والقبول بما وافق عليه الرئيس بوش في رسالته إلى شارون بمنع حق العودة وإبقاء المستوطنات الكبرى وتأكيد الصفة اليهودية للدولة وربما تهويد القدس ما يجعل من صورة الدولة الفلسطينية مسألة لا تمثل كيانا مستقلا حرا قابلا للحياة، هذا إضافة إلى كلمات عربية لا معنى لها من خلال أكثر من مسئول عربي يلهث وراء الحل الأميركي الإسرائيلي، لا سيما أن أكثر هؤلاء دخل في مرحلة التطبيع مع العدو قبل العلاقات الدبلوماسية منتهكا قرارات القمم العربية، لأن الرئيس الأميركي وإدارته الصهيونية يفرض عليهم ذلك، ولم يحرك أي مسئول منهم ساكنا حتى على مستوى الاحتجاج الشكلي ضد مجزرة تدمير المنازل التي تعتزم "إسرائيل" القيام بها في منطقة الحدود مع مصر في إطار مخطط لحفر خندق بحجة منع تهريب أسلحة للفلسطينيين. كما أن "إسرائيل" طلبت من الأميركيين تمويل جزء من مشروع جديد قيمته 450 مليون دولار لإنشاء معابر جديدة وتطوير المعابر الأخرى على طول جدار الفصل الذي تقيمه في الأراضي المحتلة واعتبرته محكمة العدل الدولية غير شرعي ومخالفا للقانون الدولي، وما يعني بأن الجدار الذي اجتاح الكثير من أراضي الفلسطينيين سيبقى على حاله من دون أي رفض أميركي أو عربي، لأنه تحول إلى ما يشبه الأمر الواقع. وإذا كانت الأمم المتحدة تعلن من خلال أمينها العام خطوة أولى نحو إيجاد سجل بالأضرار الناتجة من بناء الجدار العنصري يستند إلى إدعاءات يتقدم بها الفلسطينيون، فإن ذلك لن يحقق شيئا ما دام مجلس الأمن ممنوعا من قرار ملزم لـ "إسرائيل" في إزالة الجدار نفسه باعتباره مشكلة للشعب الفلسطيني في أصل بقائه.
إننا نقول للفلسطينيين في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ القضية أن يرتفعوا إلى مستوى الوعي للخلفيات السياسية التي تريد أن تزرع حركتهم المستقلة بالألغام التي يراد لها تفجير المجتمع الفلسطيني في وجه فصائل الانتفاضة من خلال برامج السلطة لتحقيق الشروط الإسرائيلية - الأميركية... وأن ينفتحوا على كل الخطط الخفية، بتأكيد الثوابت السياسية من جهة، وإبقاء البندقية الفلسطينية المقاومة موجهة إلى العدو في مواقعه العسكرية والاستيطانية من جهة أخرى.
إن ذلك يمكن أن يشكل المنطلق لوحدة داخلية من خلال الحوار الموضوعي العقلاني المسئول بما لا يقبل الاهتزاز ويرفض التقاتل والاشتباك أو السجال الذي لا يجدي شيئا ما قد يدفع بالأمور إلى ما يريده الاحتلال.
أما العراق فلا يزال غارقا في دوامة الفوضى الأمنية الدموية التي يسقط فيها الأبرياء وتهتز فيها الأوضاع السياسية بين رأي يؤيد الانتخابات ورأي يقاطعها من دون أي حوار موضوعي عقلاني بين الطرفين، ما يبعد تسليط الضوء على المشكلة الأم وهي الاحتلال الأميركي للعراق المسئول عن التردي السياسي والأمني الذي يضرب العراق من أقصاه إلى أقصاه والسائر في عوامل الإثارة التي تثير أكثر من حديث عن فتنة مذهبية أو حرب أهلية ما نأمل أن يواجهه العراقيون بمسئولية رافضة مرتكزة على أساس الالتزام بالوحدة الإسلامية والوطنية الشاملة مهما اختلفت الآراء في خصوصيات الخطوط السياسية حتى على مستوى الاختلاف في مسألة الانتخاب. وعلى الجميع أن يقرأوا تصريح الرئيس الأميركي في إغلاق ملف أسلحة الدمار الشامل في العراق لعدم العثور على شيء منها على رغم شمولية البحث عنها ليعرفوا الكذبة الكبرى على العالم في تبرير احتلال العراق الأمر الذي يؤكد أن السياسة الأميركية والبريطانية لا تنطلق في شعاراتها ومبرراتها من موقع الصدق للشعوب، بل ترتكز على أساس الأكاذيب التي تحمي مصالحها وأطماعها الاستراتيجية... وإذا كان الاحتلال أسقط النظام الطاغي الذي كان صنيعة أميركية فإنه كان بفعل المرحلة الجديدة للمصالح الأميركية لا لتحرير الشعب العراقي... ولذلك فإننا ندعو الشعب العراقي إلى أن يرفع الصوت عاليا لزوال الاحتلال ومطالبته بوضع جدول زمني لانسحابه كما ندعو الدول المجاورة للعراق إلى عدم المساهمة في صب الزيت الإعلامي والسياسي على النار المشتعلة في الداخل وألا يدخلوا العراق في حسابات طائفية وسياسية لا تفيده، بل قد تفيد الاحتلال بشكل غير مباشر، وربما يحاول الاحتلال وعملاؤه توجيه الاتهام إلى بعض هذه الدول للضغط عليها لتسهيل أمره في العراق وتنفيذ خططه ما يفرض عليها الانتباه والحذر أمام ذلك.
أما لبنان الغارق في أزماته المعيشية ومشكلاته السياسية وتمزقاته الطائفية فإن المفروض في مواطنيه ألا يتخدروا بالأساليب المتحركة في الدوائر المغلقة التي يختنق فيها الناس من أجل الابتعاد عن القضايا الحيوية والمصيرية لمصلحة القضايا الهامشية، وأن يدرسوا جيدا الشخصيات السياسية التي تقدم نفسها على أساس المواقع القيادية وتعمل على الدخول في النادي السياسي لمصلحة أجهزة داخلية أو خارجية وأن يلتفتوا جيدا إلى خلفيات التصريحات المتعلقة بأوضاع البلد السياسية بما فيها الداخلية من خلال ممثلي بعض الدول التي تخطط للتدخل في الواقع اللبناني بطريقة سلبية في خطط سياسية مرتبطة بأكثر من وضع في المنطقة بما قد يربك لبنان في قضاياه الحيوية والمصيرية باسم الحفاظ عليه وعلى استقلاله.
إن الحرية والاستقلال بحاجة إلى مواجهة التدخلات الخارجية والفوضى الداخلية التي تضع الوطن كله في اتجاه المتاهات التي يفقد فيها المواطن قاعدة الأمان. إنها وعي وحذر وإرادة ومواجهة في حركة الاستراتيجية والتكتيك، فكيف يواجه اللبنانيون ذلك كله في لعبة الأمم؟
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 863 - السبت 15 يناير 2005م الموافق 04 ذي الحجة 1425هـ