أربع صحف يومية تصدر بالعربية واثنتان بالإنجليزية واثنتان في الطريق. .. أعرف أن صدور واحدة بات في حكم المؤكد، يبدو أن صناعة الصحف أصبحت صناعة مربحة ومجدية اقتصاديا.
صدور صحيفة جديدة سيظل خبرا مبهجا على الدوام. ويبدو أن دراسات الجدوى لاتزال تتحدى الرأي السائد الذي يصر حتى الآن على أن هذا العدد من الصحف كثير على سوق صغيرة مثل سوق البحرين. ولأولئك الذين يهمهم اتساع مساحة حرية التعبير، فإن صدور هذا العدد من الصحف لن يكون إلا علامة ايجابية. في مطلق الاحوال سنظل محكومين بقانون السوق الذي لا يبلى: البقاء للاصلح.
لكن لنتوقف عند هذا "الاصلح". ثمة دواع أخرى للقلق بالنسبة إلي شخصيا على الأقل وأرجو من جديد أن أكون مخطئا. لنبدأ بهذا السؤال: كم صحافيا لدينا في البحرين؟ العشرات ربما، هذا صحيح لكن علينا وسط هذه الاعداد أن نبحث عن تلك النخبة الجيدة التي يسعى إليها القائمون على الصحف. أي الصحافيين الذين يمثلون النواة الصلبة لأية صحيفة. هؤلاء أصبحوا الآن موزعين على الصحف الأربع التي تصدر في الوقت الحاضر، لكن بمقياس عددي فحسب وليس بمقياس نوعي. سبق لمعظم هؤلاء أن تقلبوا بين صحيفتين أو أكثر لربما وفي الغالب مازالوا شبانا تخرج بعضهم من قسم الإعلام بجامعة البحرين في السنوات الاخيرة.
هل نسينا قسم الإعلام بالجامعة الذي سيرفد صحافتنا بالدماء الجديدة؟ ربما ستسهم الجامعة بدورها في هذا المجال، لكن المشكلة ليست في نقص محتمل لأعداد الصحافيين ولا الاعداد التي يمكن أن تستقطبها صناعة الصحافة والإعلام، بل فيما سيفعله هؤلاء عندما يلتحقون بالصحف.
منذ سنوات وحتى اليوم ظلت الملاحظة التي يمكن أن تستوقفنا في صحافتنا المحلية هي "مستواها الاحترافي". نقرأ الصحف...؟ نعم...؟ نتابع الاخبار التي تنشرها...؟ نعم...؟ نقرأ مقالات الكتاب...؟ نعم...؟ ندفع الاشتراكات السنوية ونضع الصناديق على البيوت...؟ نعم. لكن هذا كله شيء ومستوى الخدمة الصحافية شيء آخر، واذا كان هذا لا يهم القراء كثيرا، فإنه بالنسبة إلى أهل المهنة أمر مقلق.
لا يتعلق الأمر بالجرأة في طرح الموضوعات ولا بالنقد اللاذع الذي يمكن أن يسوقه المرء. ومع ثقافة عامة سائدة لاتزال ترى في السياسة نوعا من الفحولة والنقد مقابلا للهجاء، يصعب أحيانا أن يقرأ المرء مقالا أو تحقيقا أو خبرا من دون أن ينتابه احساس بأن ما قرأه مادة لم يتم التعامل معها بأقصى حدود الجهد والمهارة.
سيظل الامر يتعلق دوما بالحد الاقصى من المهارة والجهد، هذا هو ما تفتقده صحافتنا التي اثر فيها القمع "بالمعنى الاشمل للكلمة" الى حد فقدت معه القدرة على الاستقصاء الدقيق. ففي السنوات الأخيرة، كان أقصى ما يمكن أن يقدمه المحررون هو المقابلات، وتراجع مستوى التحقيقات إلى حد مريع عدا استثناءات نادرة.
وإذا لحظنا أن التراجع لم يبدأ امس أو قبل عام بل قبل سنوات، فإن الداخلين الجدد لم يجدوا أمامهم من تقاليد مهنية ما يمكنهم من وضع أقدامهم على الطريق الصحيح. الذنب ليس ذنبهم بالتأكيد، لكن هذا اثمر معادلة باتت ترتسم أمامنا: حماسة المستثمرين تسير باتجاه فيما مستوى الاحتراف في الصحافة يسير باتجاه آخر.
هل سنجد أنفسنا نعترض على الاستثمار في ميدان الصحافة؟ لن أكون من أصحاب هذا الرأي بالتأكيد، لكن يصعب أن أرى المزيد من الأموال تضخ في السوق وأصحابها مقتنعون بأن السائد يكفي. ليس لنا في النهاية سوى أن نعول على ما ستأتي به المنافسة. هل ستدفع المنافسة أصحابنا المستثمرين إلى الاقتناع بأن انتشار الصحيفة مرهون بمستوى خدمتها؟
لكن هذا كله لن يكمل العبارة، فالمشكلة لدى الصحافيين أنفسهم أو بالاصح لدى القائمين على الصحف. أصدقاؤنا القائمون على الصحف لا يشغلهم الأمر كثيرا لسبب بسيط ومنطقي: كل صحيفة منتشرة وتحقق عائدات تبعد القلق لأنها لم تستقطب قراء الصحف الأخرى، فلكل صحيفة كتلتها الخاصة من القراء. والرقم الذي يمثل حدا أدنى هنا في البحرين هو ما بين 15 - 20 ألف قارئ. اذا كانت كل صحيفة تستقطب هذا العدد بزيادة هنا أو هناك، فإن الاستنتاج المنطقي هو أنه لا توجد لدينا صحيفة أولى على المستوى الوطني. الأمر يتعلق بالحرفية لا بالاذواق والامزجة التي تخاطبها هذه الصحيفة أو تلك؛ لأن هذا سبب رئيسي آخر لتدني المستوى الاحترافي للصحف
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 862 - الجمعة 14 يناير 2005م الموافق 03 ذي الحجة 1425هـ