تبرز في الوقت الراهن أمام الإسلاميين والعلمانيين "الطرفين الأكثر فاعلية وقوة في الساحة الاجتماعية في عالمنا العربي" الكثير من التحديات المشتركة، والتي توجب على الطرفين إعادة النظر في طبيعة التنافر والمناكفة فيما بينهما، لا على أساس مبدأ الرغبة في دفن الرأس في التراب، ومحاولة الهروب من مواجهة الواقع، ولكن انطلاقا من عدم امكان تحقيق أي استقرار منشود وتطور مأمول في ظل هذا التباين العميق الذي نشهده في توجهات الطرفين، ليكون الضحية في النهاية هو المجتمع الذي يشكل العلماني كما الإسلامي جزءا من نسيجه وتكوينه، ويسهم الإسلامي كما يسهم العلماني في رسم صورته في الحاضر والمستقبل.
ومن الواضح أن التباين تشتد حدته بين التيارين الديني والعلماني في مجتمعنا العربي في ضوء الإغراق في التنظير من قبل الطرفين للتباينات والتمايزات التي تفصل بينهما، على مستوى الرؤية الفكرية والأيديولوجيا المعرفية، وهي تمايزات وتباينات من الممكن أن تظل تتعمق أكثر فأكثر كلما استرسلنا في إبرازها، وعنينا بإظهارها عبر خطاباتنا النقدية المتبادلة، والتي تستهدف ازاحة الآخر وإسقاط مشروعه الفكري قبل أن يسبق هو لتحقيق ذلك: وباعتقادي ان مثل هذه المماحكات الفكرية المتبادلة لا يمكن أن تحسم خياراتنا العملية، وهي الخيارات التي يتوقف على تحديدها وانجازها أي تطور ايجابي يمكن لمجتمعاتنا العربية أن تأمل في تحقيقه.
اهتمام بالهموم المعيشية
وهو الأمر الذي يوجب على الطرفين الاهتمام العاجل بالهموم المعيشية للمواطن العربي الذي لا تهتم النسبة الكبرى من أفراده بتحقيق انتصارات فكرية أو فتوحات معرفية على الآخر - مهما كان ذلك الآخر - بقدر اهتمامها بأن تلمس تغييرات - ولو طفيفة - في واقعها المعيشي المتردي على مختلف الأصعدة والمستويات؛ فمستويات التنمية الاقتصادية، وتحقيق مشاركة سياسية حقيقية في شئون الحكم وإدارة السلطة، وتحقيق متطلبات الحكم الصالح، وتفعيل الخيار الديمقراطي، وتطوير مستويات التعليم ونشر المعلوماتية، وتقليل معدلات الفقر، ومحاربة الفساد في الجهاز الإداري والسياسي والمالي... كلها ملفات مازالت إما مغلقة في عالمنا العربي، أو لم ينجز فيها شيء ملموس، على رغم كثرة الحديث عنها في الفترة الأخيرة في ظل الاخفاقات المشهودة في التجربة العربية الحديثة والمعاصرة، والتي لم تستطع أن تحقق ولا حتى حلم واحد من أحلامها في قيام سوق عربية مشتركة، على رغم أن هذا الحلم كان يداعب مخيلة كل القادة السياسيين في عالمنا العربي منذ أكثر من ثلاثين عاما.
إعادة ترتيب أولوياتنا
ومن أجل ألا تستعيد التجربة الشعبية والنخبوية بشقيها العلماني والإسلامي ما فعلته وما وقعت فيه التجربة الرسمية من اشكالات دائمة ومتواصلة، يجدر بها أن تعيد ترتيب أولوياتها فيما يتعلق باهتماماتها على مستوى الخطاب، وعلى مستوي الممارسة، وأن تحفز كل قدراتها وامكاناتها باتجاه ابداع مشروع انقاذ لهذا العالم العربي البائس والمتخلف، والذي أضحى كالثقب الأسود القادر على ابتلاع كل مجرات الخير والنماء والتطور التي تمر من أمامه مر السحاب، مهما كانت كبيرة وضخمة، فالفرص مازالت تهدر في تجربتنا العربية منذ أكثر من نصف قرن، في الوقت الذي ننشغل - إسلاميين وعلمانيين - بمناقشة الكثير من الأمور التنظيرية التي لا تمت إلى واقع الإنسان العربي بصلة.
سيل جارف من تحديات العصر
وقد غصنا واستغرقنا في نقاشاتنا العقيمة بشأن الكثير من القضايا المختلف عليها، والتي لم يستطع أي طرف أن يحسم الخلاف بشأنها، إلى أن داهمنا سيل جارف من تحديات العصر عطل قدرات الطرفين، وألغى كل أهمية ممكنة لتنظيرات الجهتين؛ واليوم نجد أنفسنا مضطرين للوقوف في صف واحد في مواجهة التحديات المشتركة، وعوض أن نظل ندور في حلقة مفرغة عبر الاهتمام باختلافات التنظير، سيكون من المفيد جدا لو كسرنا الطوق، وتوجهنا بشكل مباشر للنظر في التوافقات التي يفرضها علينا واقعنا المعيشي الواحد، فهو الهم المشترك بيننا، وهو القادر على توحيدنا في مشروع واحد ننجح من خلاله في بناء توافقات اجتماعية مشتركة، تكون منطلقا لنا في انجاز مهمات التغيير والتطوير، التي طال انتظار هذا العالم العربي لها.
مهمة رصد للإشكالات
وخير ما يمكن أن نتوافق عليه هو القيام بمهمة رصد للاشكالات والمشكلات التي يعيشها عالمنا العربي، والتي تمثل معيقات تمنعه من انجاز تنمية حقيقية على مستوى الأرض، على رغم ما يتوافر لديه من امكانات بشرية واقتصادية وجغرافية وطبيعية، وهي امكانات إن بقيت بهذه الحال من سوء الاستثمار والتوظيف فستضيع وستتلاشى مع الزمن، ولاسيما أننا قد تأخرنا كثيرا في انجاز المطلوب منا، نتيجة اشغالنا بمهمات التنظير، والتي لم نستفد منها شيئا سوى تعميق حدة التباينات في الرؤى والمواقف، في الوقت الذي ظلت الفرص تضيع من بين أيدينا، ولنجد أنفسنا في نهاية المطاف كلنا في مواجهة مصير واحد سيئ، لم يفرق بين عقائدنا وانتماءاتنا، وأهم ما أرى من قضايا ينبغي أن تعطى أولوية خاصة على مستوى الانجاز والتفعيل هو الآتي:
أولا: بناء الديمقراطية: وهي الشعار أو المشروع الأكثر غيابا في ساحتنا العربية، حتى أضحى العربي ينظر للديمقراطية بوصفها منحة إلهية لا يمتلك شرف الحصول عليها.
ثانيا: التنمية الشاملة: وهي المهمة التي لم يعرفها عالمنا العربي إلا كشعار يماثل بقية الشعارات التي رفعت منذ عهد طويل من دون أن يتحقق منها شيء كثير.
ثالثا: مواجهة الفساد: وهو الداء الذي ظل ينخر المؤسسة العربية الرسمية من الرأس إلى القاعدة، من دون أن يجرؤ الكثيرون على الحديث عنه، وكأنما هناك توافق على السكوت والتغاضي.
رابعا: محاربة الفقر والتخلف: وهما الظاهرتان اللتان تزدادان مع الأيام في الواقع العربي، من دون أن يتمكن النظام العربي الرسمي من الوقوف في وجهيهما والحد من معدلاتهما.
* عالم ديني بحريني
إقرأ أيضا لـ ""العدد 861 - الخميس 13 يناير 2005م الموافق 02 ذي الحجة 1425هـ