العدد 861 - الخميس 13 يناير 2005م الموافق 02 ذي الحجة 1425هـ

البحث عن سعادة مستحيلة

الفارابي وقصة "المدينة الفاضلة" "5"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حين أعدم الحلاج كان الفارابي تجاوز نصف قرن من عمره. فانقلب الحادث على حياته وبدأ يعيد النظر بفكرة "وحدة الوجود" ويأخذ مسافة عن تلك الشطحات الصوفية المتطرفة. فالإعدام أسهم مداورة في تعديل نظرية الفارابي فاتجه نحو المزيد من التعقيد والتركيب بحثا عن فكرة "التكاثر". فإذا كان الواحد "لم يلد ولم يولد" فمن أين جاءت الموجودات؟

هذا السؤال دفع الفارابي نحو تنسيق منظومته الفكرية وإعادة ترتيبها فلسفيا حتى لا تتعارض مع الشريعة. فالواحد لم يلد ولم يولد ولكن الموجودات جاءت منه "المصدر الواحد" وبالتالي لابد من وجود انقسامات أحدثت الولادة وولدت الموجودات.

وجد الفارابي في نظرية "الفيض" المخرج النظري لمأزقه الفلسفي فاستغلها في بحثه لاستكمال دراسة الموجودات منطلقا من نزعته التوفيقية. وبدأ يشتغل على كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين: أفلاطون وأرسطو. وتوصل في بحثه عن الأصل المشترك للموجودات إلى استنتاجات غريبة حاول إثباتها في دراسته، أهمها أنه لا خلاف بين أفلاطون وأرسطو في الجوهر وأنهما في النهاية متفقان في النظرة إلى العالم والكون والإنسان. وبسبب ميول الفارابي التوفيقية توصل إلى حلول خاصة به أسعفته في تمييز نفسه عنهما وبناء منظومة مستقلة معتمدا على فكرة النقل. فالنقل عن الآخر لم يمنع الناقل عن توصيف رؤية متشابهة وليست متطابقة مع الترجمة عن الأصل. وهذا الاختلاف أشار إليه ابن خلدون في مقدمته ومدحه على محاولته تلك في معرض نقده لأعمال ابن رشد التي كانت أكثر نقلية من الفارابي وأقل عقلية.

بعد كتاب الجمع بين أفلاطون وأرسطو اجتاز الفارابي أزمته الفلسفية وانتقل إلى تطوير بحثه عن الموجودات معتمدا على نظرية "الفيض" فقال إن الواحد لا ينقسم ولكنه يفيض على ذاته. ومن ذاك الفيض تبدأ الموجودات بالانقسام والتوالد والتكاثر.

إلا أن الفارابي ارتكب خطأ فادحا في خلاصاته النظرية تلك حين خلط مصادره الفكرية بين آراء أفلاطون وأفلوطين "مدرسة الاسكندرية". فاعتقد أن نظرية الفيض أفلاطونية بينما هي من إنتاج أفلوطين أو ما يسمى بالأفلاطونية المحدثة "الحديثة". ومات الفارابي وهو لا يعلم ذلك وهذا ما كشفته لاحقا الدراسات التي عالجت أفكاره الفلسفية فخالفت الكثير من استنتاجاته التي طمحت للتوفيق بين المتناقضات في وقت كانت الأسس التي اعتمد عليها غير صالحة لتأكيد الأصول الواحدة لفكرة الموجودات.

وبعيدا عن ذاك الخطأ الذي لم يدركه الفارابي في حياته توصل "المعلم الثاني" إلى حل أزمته الداخلية، فاستعاد نشاطه الذهني تمهيدا للتكيف مع حياته اليومية.

إلى نظرية "الفيض" لجأ الفارابي إلى الموسيقى بحثا عن توازنه الداخلي وكوسيلة للنسيان والتصالح مع الواقع المعقد الذي تعصف به رياح السياسة والمشاحنات من كل الجهات والبيئات. ففي المقلب البعيد نجح عبدالرحمن الناصر في إعلان نفسه خليفة على الأندلس في العام 316هـ "929م" ودخل في صراع سياسي مع الفاطميين للسيطرة على المغرب. فالصراع على شمال إفريقيا ولد الحاجة عند الفاطميين إلى البحث عن ملاذ آمن لدولتهم وخصوصا حين اشتد الضغط من الجانب الأندلسي الذي يشكل قوة موازية للمركز العباسي في بغداد. وبسبب اشتداد الصراع الأندلسي - الفاطمي في المغرب بدأ الفاطميون يزيدون من ضغوطهم على مصر وينشطون هناك بحثا عن الاستقرار في موضع جغرافي لا تطاله ضربات الأندلس العسكرية ولا مخاوف العباسيين في بغداد. فمصر آنذاك كانت خارج دائرة نفوذ الخلافة العباسية وتحولت إلى سلطات شبه مستقلة "طولونية ثم أخشيدية" وبالتالي فهي لا تتمتع بالحماية السياسية من دولة الخلافة.

زادت من فرص نجاح الفاطميين بالانتقال من المغرب إلى مصر ظروف الخلافة في بغداد ودخولها في مشكلات داخلية كثيرة عزز من مفاقمتها ظهور حركة القرامطة واشتداد شوكتهم. ففي تلك الفترة أقدم القرامطة على مهاجمة مكة المكرمة وهدم الكعبة وارتكاب مجزرة رهيبة ضد الحجاج ومن ثم اقتلاع الحجر الأسود وإخراجه من مكانه في العام 318 هجرية "930م".

أربك هذا الحادث مركز الخلافة وأثار المخاوف في بغداد فازداد ضعف الخليفة وتضاعف تدخل الجند "الجيش" في السياسة فأصبحت داره عرضة للتلاعب والصراعات والنميمة والانقلابات الصغيرة فانتهى الأمر باغتيال الخليفة العباسي "المقتدر" في سنة 320هـ "932م".

أسهم الاغتيال في تعميم الفوضى وتقويض أسس العلاقات بين المركز والأطراف وأعطى فرصة لانفلات الأقاليم ونزوعها نحو الاستقلال "الانقسام". وفي تلك المعمعة السياسية أرسل الفاطميون حملتهم العسكرية الثالثة إلى مصر ولكن السلطة الأخشيدية نجحت في التصدي لها في العام 321هـ "933م". وهي السنة التي سبقت وفاة المهدي الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لدولة الفاطميين في المغرب.

في ظل هذا الجو المشحون بالعواصف السياسية قرر الفارابي تطوير هواياته الموسيقية بحثا "ألف موسوعة" وفنا "اختراع آلة القانون". الموسوعة لاتزال موجودة وهي تؤرخ لأنواع الموسيقى وتطورها إلا أنها فلسفيا كانت تهدف إلى البحث عن الانسجام "التوفيق بين الآلات". وفنيا لاتزال آلة القانون تستخدم إلى أيامنا بعد أن أدخلت عليها تطويرات كثيرة وحدثت مرارا.

أراد الفارابي من الموسيقى أن تكون ذاك الوعاء الذي يستوعب أنغام اضطرابه الداخلي وميله الشخصي نحو الهدوء والاستقرار والانسجام بين الموجودات. فالموسيقى هي نوع من حلم اليقظة، فحين يستمع إليها الإنسان يسافر على أنغامها فيخرج من مكانه إلى عالم آخر تسوده السعادة والمحبة من دون نشاز. والموسيقى أيضا محاولة للسيطرة على التناقضات وتوحيدها في إطار هندسي مشترك تخرج منه مقطوعة متجانسة من آلات مختلفة. فهي في معنى من معانيها الفلسفية محاولة للبحث عن الانسجام "التوفيق" بين المتناقضات وبالتالي لا تختلف في معانيها عن رؤية الفارابي الفلسفية. فالتوفيق بين أنغام الآلات يشبه التوليف "الجمع" بين الحكيمين.

ساعدت الموسيقى الفارابي في نسيان الماضي والهروب من الواقع والتحليق عاليا بحثا عن مكان "مدينة فاضلة" تنسجم فيها العلاقات وتتوازن بين الموجودات وتستقر على أرض "قطعة" لا نشاز فيها. فالكل متوافق مع الكل والكل ينسجم مع الكل. فالموسيقى/ المدينة هي طموح الفارابي الفلسفي للخروج من مأزق الواقع الذي عصفت به السياسة "النشاز"، وكذلك هي الواسطة الإنسانية لتطويع تعارضات الواقع وصهر موجوداته "كثرته" في واحد لا ينقسم "لم يلد ولم يولد".

هذه الخلاصة الفلسفية "الموسيقية" توصل إليها الفارابي قبل أن يقرر الجلوس والبدء في كتابة آراء أهل "المدينة الفاضلة". إلا أنها خلاصة كانت ما أن تتوصل إلى الاكتمال حتى تطيح بها حوادث معينة تؤخر نهايتها وبالتالي تضغط مجددا عليه لإعادة النظر في أطرافها أو البحث عن نشاط إضافي يزيد من قوتها وتماسكها. فالفارابي الباحث عن الاطمئنان والصفاء والحياة الهانئة عصفت به كل التيارات المتصارعة فكريا وفلسفيا في عصره. فالمصادفة قذفته إلى بيئة سياسية إسلامية ثقافية كثيرة التقلب وسريعة التطور وعندها مقدرة على الإنجاب والتوليد الدائم. وهذا كله مصدر ثراء لكل من يبحث عن الحقيقة والكمال والسعادة.

عصر الفارابي شهد ذروات من الصراع على مختلف المستويات وفيه شاهد صعود دول وهبوطها وعايش رموز تيارات لاتزال أسماء قادتها تتردد إلى أيامنا. ففي تلك الفترة المضطربة سياسيا "الأندلس والفاطمية والأخشيدية من المغرب إلى مصر والقرامطة من العراق إلى البحرين" عرفت الخلافة نشوء اتجاهات طبية وفلسفية وفلكية وفقهية تركت بصماتها على تاريخ العالم. آنذاك مثلا توفي عالم الفلك عبدالله البتاني "318هـ" الذي اكتشف الكثير من الأجرام والنجوم وشرح في كتبه معاني حركاتها ودورانها. وأيضا توفي الطبيب "الملحد" أبوبكر الرازي "320هـ" صاحب كتاب "الحاوي" وهو موسوعة في الطب ترجمت إلى اللاتينية ولغات أوروبية ودرست في الجامعات كمرجع علمي إلى أن شهدت أوروبا ولادتها الحديثة. وأيضا وعلى النقيض من الفلك والطب أعدم أبوجعفر الشلمغاني لادعائه الألهوية "322هـ" كما سبق وفعل الحلاج وكان مصيره مشابها لسلفه.

الفارابي وليد عصر المتناقضات ونتاج بيئة ولادة اندمجت فيها وتصارعت مختلف التيارات إلا أنها في النهاية تضاربت وتعايشت كلها تحت سقف الإسلام. فالإسلام آنذاك كان قائد الحضارة الإنسانية وبالتالي كانت ثقافته هي المهيمنة... فهي تشبه الحاوي "عند الرازي" والموسيقى "عند الفارابي" في معنى قدرتها على الجمع والدمج وإعادة إنتاج وتوليد المعارف. إنها مدينة جامعة تلتقي فيها كل الأطراف والأطياف ولكنها محكومة بالاضطراب الدائم.

هذه المدينة أراد الفارابي توحيد نغماتها في لحن واحد منسجم لا نشاز فيه ولا خروج بين جدرانها على القواعد "النوتات". وهنا بالضبط كان مأزق الفارابي التائه والباحث عن سعادة مستحيلة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 861 - الخميس 13 يناير 2005م الموافق 02 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً