بين كل الملفات الوطنية، سواء تلك التي تغلي على نار ساخنة أو هادئة، يتوه ملف الأخطاء الطبية القاتلة وغير القاتلة، لتطفو على السطح بين الفينة والفينة حكايات نتداولها بالشكل الذي يليق، وربما اقل، لتركن، ونعود نتذكرها من جديد بمجرد أن يضاف إلى القائمة الطويلة خطأ جديد يقدم لنا على طبق من معدن قصة مشابهة. تلك الأخطاء، لم تستوقف طرفا بعينه لا من قريب ولا من بعيد، لتمضي حكايات البشر الذين قضوا نحبهم جراء خطأ هنا وإهمال هناك، من دون أن يلتفت إليها أحد.
ربما تنشر الصحف التفاصيل ليتفاعل القراء أو لا بفعل، ربما تخط الرسائل المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق وإعلان الأسباب، ربما يتنصل الأطباء من الخطأ من باب "الخطأ وارد"، لكننا لم نسمع، "أو قلما نسمع لنكون أكثر دقة" عن أطباء فصلوا أو أوقفوا أو حوكموا جراء ارتكابهم لأخطاء أودت بحياة مريض ما أو تسببت بعاهة مستديمة لآخر.
كان المخطط ان نشرع في هذا الملف لندع الأرقام تحكي بلسان حال الواقع، عدد الأخطاء الطبية في العام الماضي، عدد التحقيقات التي فتحتها اللجان الطبية، عدد الشكاوى التي رفعت إلى وزارة الصحة، كم منها نظرت فيه الجهات المدانة، كم منها ركن للنسيان، وفي المقابل كم منها كان مجرد تجن وافتراء على أطباء أدوا عملهم كما يجب؟
هل هذه الأسئلة وحدها تلوح في الأفق؟ طبعا لا... فهناك المزيد يسأل عن مدى جسامة الأخطاء الطبية، ومقدار الدعاوى المرفوعة على وزارة الصحة بسبب الأخطاء الطبية خلال السنوات الماضية ومدى تناسب التعويضات التي تقضي بها المحاكم، ومتى يستحق الأهل التعويض، وإن عوضوا ماديا، ما الذي يعوض عن الأرواح، كم من تلك القضايا القي بالمسئولية الجنائية على الطبيب، كم من الأخطاء أعقبه قرار تأديبي أو إداري، ما مدى حيادية اللجان وهل تستعين بخبراء ومستشارين للتحقيق أم أن الملفات تغلق لأن الإغلاق هو المصير الأوحد الذي ينتظرها طال الزمن أو قصر؟
أخطاء
المفارقة، أن البحرين لديها أطباء مشهود لهم في مجالهم، ووزارة الصحة كانت الأولى في منطقة الخليج التي كان لديها في الخمسينات من القرن الماضي "المسئول الصحي الاول" الذي يتصل بالحكومة مباشرة وكلمته كانت مسموعة. اما الان فلا وجود للمسئول الصحي الأولالذي يمتلك القناة المباشرة مع أعلى الهرم التنفيذي ولاوجود لمجلس طبي "وسيط" يحقق في الاخطاء في الشكاوى ليقول كلمته الفصل ويوضح فيما اذا كانت الشكوى صحيحة ام خاطئة من الاساس.
ولا ينفك بعض الأطباء من تكرار أن الأخطاء تحدث تماما مثل أي مهنة أخرى، وأن أخطاءنا في البحرين هي الأقل بالمقارنة مع ما هو متعارف عليه عالميا.
لذلك نجد أن الإجابات التي تبحث عنها هذه الأسئلة ليست حاضرة، فمثل دول العالم الثالث، تفتقر البحرين لإحصاءات وأرقام دقيقة تعطي الصورة الفعلية كما تبدو في الواقع، والردود الرسمية عادة ما تأتي مقتضبة، هذا إن كان هناك ما يستدعي الرد أو يلح في الحصول عليه مهما كان، شافيا أو مثيرا لمزيد من الأسئلة.
لذلك، وجدنا أنفسنا محشورين في زاوية، هي ما يأتي على لسان أهل من كوتهم الأخطاء الطبية وتسببت في قتل عزيز لديهم، جالوا يبحثون عن تعليل، فلم يجدوا بابا مفتوحا، وبطبيعة الحال لاذوا إلى الصحافة لكونها منفذا يستمع وينقل، فذلك اضعف الإيمان وربما الخيار الأخير.
لكن قبل ان نروي على لسان الأهل حرقة لا يطفيها أي تعليل، لنستشهد بالتوصيات التي خرجت بها مؤتمرات خليجية وعربية ودولية وقفت عند ظاهرة الأخطاء الطبية.
خارج النطاق
فقد خرج المؤتمر الصيدلاني العالمي الثاني الذي جاء العام الماضي تحت شعار "نحو ممارسة تستند إلى الأدلة العلمية" بعدد من التوصيات أبرزها ان الممارسة المبنية على الأدلة هي الأسلوب الأمثل الذي ينبغي تطبيقه من قبل الصيادلة الممارسين.
إلى ذلك، ثبت عالميا ان الأخطاء المتعلقة بوصف الأدوية سبب رئيسي لزيادة عدد المرضى الخاضعين للعناية الطبية في المستشفيات، وزيادة فترة بقائهم فيها.
وفي مقال لهيئة الإذاعة البريطانية "القسم العربي" أذيع في 20 مارس / اذار 2000 جاء عن مجلة بريطانية مختصة بالشئون الطبية أن عددا قد يصل إلى ثلاثين ألف شخص يتوفون سنويا في بريطانيا بسبب أخطاء طبية، ودعت المجلة إلى إعادة النظر في إجراءات السلامة الطبية وإلى مزيد من التدريب للأطباء، للتقليل من الأخطاء والوصول بها إلى حد أخطاء الطيارين أو عمال المحطات النووية.
في غضون ذلك، وأوضح محرر المجلة ريتشارد سميث أن عدد المتضررين سيرتفع إذا ما أضيف إليه من يعانون من عواقب وخيمة من جراء تلك الأخطاء من دون أن تصل بهم إلى حد الوفاة، موضحا أن تلك النسبة قدرت مقارنة بالنسب الأميركية التي تصل إلى حد مئة ألف شخص هناك يتوفون نتيجة أخطاء يمكن تجاوزها.
بطبيعة الحال أدت هذه الأرقام إلى ذعر في الولايات المتحدة وذلك أنه يفوق مجموع عدد من يتوفى أو يصاب نتيجة حوادث السيارات والطائرات والانتحار أو التسمم أو الغرق أو السقوط من الأماكن الشاهقة، ونبه سميث إلى عدم إلقاء اللوم بشكل تلقائي على الأطباء وحدهم موضحا أن الأخطاء ليست دائما بسببهم بل إنها قد تحدث بسبب الطاقم الطبي المساعد للطبيب في المستشفيات والعيادات داعيا إلى إعادة النظر في النظام برمته.
على صعيد متصل أعلنت وزارة الصحة الأميركية في وقت متقارب من إذاعة تقرير هيئة الإذاعة البريطانية أن حوالي 98 ألف شخص يتوفون سنويا في الولايات المتحدة نتيجة الأخطاء الطبية التي تعتبر ثامن سبب للوفيات فيها. وجاء في تعليق آخر لها أن "صانعي السيارات لا يسمحون بهذه النسبة من الأخطاء الطبية التي نرتكبها"!
ويفيد تقرير لمعهد الطب في الولايات المتحدة أن اقل التقديرات الخاصة بالأخطاء الطبية تفوق معدلات الوفيات السنوية بسرطان الثدي أو الإيدز في الولايات المتحدة.
فإذا كانت الولايات المتحدة التي تقدم أفضل عناية صحية في العالم، هذا واقع مستوى الأخطاء الطبية فيها وهو مرتفع بصورة غير مقبولة على لسان وزيرة الصحة هناك، فماذا ننتظر من قطر كالبحرين؟
الحكاية رقم "1"
يقول المواطن "ع.ن" الذي فقد ابنته البكر "16 عاما" في العام الماضي، توفيت ابنتي جراء الإهمال والتقصير في مجمع السلمانية الطبي، فور وفاتها طالبت مكتب وزيرة الصحة ورئيس جمعية الأطباء بتشكيل لجنة تحقيق بصورة عاجلة، لكن أيا من ذلك لم يحصل، ولم أتلق مجرد اتصال يشعرني إن الشكوى قد وصلت.
ويمضي في القول: "أدخلت ابنتي بتاريخ 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى الطوارئ، بعدما اشتد عليها السكلر، إذ كانت درجة حرارتها مرتفعة وتشعر بدوار مستمر، لكننا تفاجأنا بعد خمسة أيام من حجزها في المستشفى جراء ذلك، وإذا بالطبيبة المتابعة لحالتها تخيرها بين البقاء أو الذهاب إلى البيت لان العلاج واحد، وتكتب بعدها رخصة المغادرة، على رغم ان حرارتها لاتزال مرتفعة ولا تقوى على الاتزان، والكل يعرف خطورة ارتفاع درجة الحرارة لأي مريض فما بال مريض السكلر؟ منذ متى كان للمريض حق تقرير البقاء في المستشفى أو مغادرتها؟".
ويزيد: "أخذتها إلى البيت، وأخذت حالتها تسوء أكثر، فرجعت بها مسرعا إلى الطوارئ، فنامت هناك مجددا وكانت تصرخ من الآلام المتواصلة في الظهر والقدمين، وفي اليوم التالي صارت لا تعي من حولها، ودخلت لأول مرة بما يشبه الغيبوبة، سألت الممرضات فقلن ان الوضع طبيعي بسبب المهدئات، لكن حالتها تتصاعد سوءا، ما اضطرني إلى استدعاء الطبيب الذي فحص دمها ليجد الهيموغلوبين فوجده وصل إلى خمسة، في حين ان المعدل الطبيعي يتراوح ما بين 10 و12 "..." كل هذا التدهور في حالتها كان في غفلة من الأطباء وطاقم التمريض، فلوا قاموا بواجبهم كما يجب لما كنت انعى الآن فقد ابنتي الوحيدة".
الحرقة التي تقتات من النعيمي تجعله يواصل بنبرة أكثر حدة،"الممرضات حينها أكدوا أنهن سيتصلن بالاستشاري لسؤاله أي الخيارين أفضل، دم إضافي أم تغييره بالكامل، وقلن ان الطبيب لا يرد على المكالمات، لكنه أكد بعد سؤاله انه لم يتبق أي اتصال "..." بقينا لمدة ننتظر، وعندما نقلوها إلى وحدة العناية المركزة قالت احدى الطبيبات ان أمل أصيبت بجرثومة من جناح 411 الذي كانت ترقد فيه".
ويسأل: هل يدخل المريض إلى المستشفى ليعالج ويطيب، أم ليصاب بجراثيم لم تكن فيه أصلا... هذا تحديدا ما يحتاج إلى تحقيق.
في غضون ساعات قليلة، تدهورت حالتها يقول النعيمي توقفت الكلية عن العمل، والرئة أيضا، هبطت الأملاح إلى أدنى مستوى ثم أعلنوا وفاتها.
وكتبوا في تقرير الوفاة ان السبب يرجع إلى فشل في الجهاز التنفسي لاحقا فشلا عاما في الجسم، وأضافوا إلى ذلك تسمم الدم وسكلرا حادا، وهذا الأسباب مجتمعة تجعلنا نسأل كيف أخرجوها من المستشفى وهي تعاني من كل ذلك، في وقت بقت فيه حرارتها مرتفعة إلى الأخير، من المسئول عن عدم ملاحظة انخفاض نسبة الهيموغلوبين في الدم، ولماذا لم تتشكل لجنة تحقيق في أسباب الوفاة إلى يومنا، على رغم ان رئيس جمعية الأطباء أبدى حماسا في بداية الأمر، ألا يستدعى كل هذا الإهمال وقفة محاسبة أو سؤال، أم ان السكوت والتجاهل هو ما سيذيل ملف وفاة ابنتي؟
أسئلة المواطن هذه تنغص نومه، وتحول الليالي إلى كوابيس، يقول أشعر ان روح ابنتي تستنجد وتسأل عن السبب الحقيقي لموتها، لذلك أريد ان يفتح التحقيق لتهدأ روحي وروحها، ولتكن النتيجة ما تكن".
الحكاية رقم "2"
هذه المعاناة حلقة واحدة، من مسلسل طويل عريض، لا نعرف له بداية ولا ندرك له نهاية... مواطن اخر "إ.هـ" جاء إلى "الوسط" الشهر الماضي، الدنيا تضرب به شمالا ويمينا، فوالدته عالقة بين الحياة والموت وتحتضر الآن جراء مرض السرطان الذي صار ينهش في جسدها كله لأكثر من خمس سنوات، جاء ليقول انه يريد ان يعرض ما يعيشه هو وأخوته وأقرباؤه على الرأي العام، لافتا إلى كمية أخطاء قاتلة لا توجد جهة رقابية تحاسب عنها أو تعاقب جراءها، مطالبا بمحكمة طبية تخصص لهذا الشأن.
ويسأل: "كم من المرضى صرفت لهم أدوية خطأ، كم منهم صرفت لهم أدوية لا تناسبهم، إلى متى ستستمر اسطوانة نقص الطاقم ونقص الاسرة، إلى متى يبقى مرضى الطوارئ لساعات من دون ان يكشف عليهم الطبيب؟"
ويقول: "أدرك أن حالة أمي ميئوس منها، لكن كم من المرضى دفعوا حياتهم ثمنا لأخطاء صغيرة، الموضوع لا يحتاج إلى مقال أو تحقيق، بل يحتاج إلى موقف حكومي رادع".
افرغ المواطن حزنه لدى "الوسط" لكنه وجد نفسه حاملا لحزن اكبر هو الشلل العام عن تغيير الواقع والدفع به إلى بر أفضل، مضى عائدا أدروجه إلى حيث أمه، ولا نعرف ما الذي حل بها الآن، لكننا واثقين ان من أمثاله أناسا كثر بالعشرات أو بالمئات، ناقمين ومشلولين في آن.
فهل في حالتهم يكون الصمت أبلغ من الكلام، في وقت يتوالى مسلسل الأخطاء الطبية فصولا، فريق يعيب على الطب العام، وفريق آخر لا يجد الطب الخاص بعيدا عن الاتهام، إذ يوصم الأخير بالمتاجرة وسعيه وراء الربحية.
والمفارقة أن بعضا من الاطباء يجد مهنة الطب كغيرها من المهن لها أخطاؤها غير المقصودة، ولكنها حساسة أكثر من غيرها كونها تتعلق بحياة الإنسان، ليؤكد في موقع آخر، أن الأخطاء الطبية ظاهرة معروفة عالميا حتى في الدول المتقدمة.
في البرلمان
على صعيد متصل، لامس عضو مجلس النواب عيسى المطوع في دورة الانعقاد الثاني خلال حملة استجواب الوزير السابق خليل حسن قضية الأخطاء الطبية عبر سؤال وجهه إلى الوزير يسأل عن عدد الوفيات جراء الأخطاء الطبية ونسبتها ونسبة الخطأ فيها، ليطالب بلجان محايدة تنظر في كل قضية تثير الريب ويشتبه في حدوث خطأ طبي فيها.
يشير المطوع إلى ان السؤال أرجعه له مكتب المجلس بهدف الاختصار، فختصره وأعاد طرحه على الوزيرة الحالية، ليتوقع ان تأتي الإجابة في غضون شهر من الآن.
وقال: تقدم المجلس باقتراح برغبة في تطوير العناية القصوى، فهناك من ثلاثة إلى أربعة أشخاص يموتون هناك شهريا، وهناك قائمة طويلة تنتظر ان تحول إلى العناية المركزة وتحول قلة الأسرة دون ذلك، ويسأل: "إلى متى تبقى الشكوى من الأخطاء والإهمال والجهل وقلة الاسرة قائمة، ألا يحتاج ذلك إلى تطوير؟".
وتبقى ثنائية القضاء والقدر، في قبالة الأخطاء والإهمال، قائمة، إذ يرى المحامي عبدعلي العصفور إن البحرينيين مسالمون بطبعهم، وفي حال الوفاة جراء الخطأ الطبي يغضون الطرف عن المطالبة بالمسألة القانونية، واحتسابا للأجر!
وبحسب العصفور، إن القضايا التي ترفع إلى المحاكم نتيجة الأخطاء الطبية والوفاة بسببها قليلة جدا، لكن الأخطاء التي تسبب ضررا أو عاهة أعلى رقما بالمقارنة، ويقول: "هناك شريحة كبيرة تجهل القانون، خصوصا وإن القانون القديم قبل صدور القانون المدني كان لا يسمح ان ترفع قضية ضد العيادات الحكومية، لذلك كانت الكثير من الحقوق مهدرة، أما الآن فصار عدد القضايا الشبيهة أعلى".
ويقول: "المفارقة ان هناك أخطاء لا تغتفر، وأخطاء أخرى يرتكبها الطبيب المحترف ولا يرتكبها طالب السنة الأولى في كلية الطب، والطامة إن خطأ الطبيب نادرا ما يعالج، فالنجار عندما يخطأ في نجارة الطاولة يعيدها من جديد، والمهندس عندما يخطأ في التصميم يعيده أيضا، لكن خطأ الطبيب أضراره جسيمة ومن المحتمل تقود إلى الإعاقة أو الوفاة".
ويضيف: "الإنسان متكاسل عن صحته، فعندما تشكو سيارته من عطب يهرع بها الميكانيكي، لكن عندما تظهر عليه أعراض مرض ما لا يقصد الطبيب إلا عندما تسوء حالته، وهذه مفارقة ملاحظة".
تبقى الأخطاء الطبية حديثا دائرا، والشكاوى غير معلومة العدد تماما مثل الأرواح التي تزهق عن طريق الخطأ، والسؤال هل من نهاية تحد من مسلسل الأخطاء الطبية، أنه مسلسل مدبلج لا نهاية لحلاقاته؟
العدد 860 - الأربعاء 12 يناير 2005م الموافق 01 ذي الحجة 1425هـ