العدد 860 - الأربعاء 12 يناير 2005م الموافق 01 ذي الحجة 1425هـ

قانون المحنة صهر للجماعة واستنفار للطاقة

خالص الجلبي في حديث إلى "الوسط":

خالص الجلبي كاتب ومفكر إسلامي، تخرج من كلية الطب في جامعة دمشق العام ،1971 ثم انتسب الى كلية الشريعة فتخرج منها حاصلا على شهادة البكالوريوس من جامعة دمشق، قبل ان يتابع اختصاصه بالجراحة العامة في ألمانيا.

وبجانب اهتمام خالص الجلبي بالطب من جهة والشريعة من جهة اخرى، انخرط خالص الجلبي في عالم الكتابة في شقين احدهما اخذ طابع البحث العميق لينتج كتبا، وآخر سار باتجاه معالجة موضوعات الساعة، فكانت مقالات صحافية، كان من نتائجها حصوله على جائزة علي وعثمان حافظ الصحافية عن أفضل مقالة للعام .1997

يؤمن بالأسلوب السلمي كأداة تحرير أساسية للإنسان، ويدعو إلى تأسيس لا عنف عربي، ومن هذه الروح، ألف عددا من الكتب كان منها "قوانين التغيير" و"بناء ثقافة السلام" تحدث فيها عن القوانين الناظمة للتغيير الاجتماعي والفكري، وكان أهم هذه القوانين قانون المحنة الذي يعتبره الانطلاقة الأولى للمجتمع والفرد نحو المستقبل، ونظرا لأهمية الموضوع، كان هذا الحوار مع الجلبي عن القانون وأثره الفردي والاجتماعي ومن هم المؤثرون به وكيف يعاملهم المجتمع وما المخرج من الوضع القائم.

من قوانين التغيير التي تحدثت عنها في كتبك، قانون المحنة. كيف يمكن اختصار القانون بكلمات قليلة؟

- اعتبر المؤرخ البريطاني "توينبي TOYNBEE" أن للمشقة فضائل، وان الحضارات تنبعث في العادة ليس من ظروف الراحة بل في وسط التحدي، ورأى الفيلسوف الفرنسي "باسكال PASCAL" أن الأفكار المبدعة تولد من رحم "المعاناة" وهكذا اكتشف المنحنى "الهندسي الدحروجي" في أحد ليالي الألم والمرض القاسية، واعتبر عالم النفس البريطاني "هادفيل HEADFIEL" أن المحرض الرئيسي للإرادة هو "المثل الأعلى" فهو يستنفر الطاقة لمستوى أعلى من حضورها العادي، واعتبر القرآن أن الابتلاء سنة لامحيص عنها لعباده الصالحين كأداة صقل وتنظيف أخلاقي، واستنفار للطاقة وصهر للجماعة في نار المحنة، التي تمثل قانونا، تغلغل في مفاصل الوجود، وشكل كل من المحنة والتحدي والمعاناة شرطا جوهريا في نضج الشخصية ويقظة الإنسان وتماسك الجماعة وقوة الدولة وانبعاث الحضارة.

دعنا نقف عند أمثلة محددة من حالات المحنة. وهل هذا القانون ضرورة؟

- المحنة ضرورة في معاناة الأفراد وتطور الجماعة، ومن دونها لا يبدع الفرد ولا تتطور الجماعة، فعندما كان المصلح "ابن تيمية" يضرب وينزل من المنبر وتطير عمامته ويعزر، ويحكم على سلطان العلماء الإمام "العز بن عبدالسلام" زمن الملك "الأشرف" بن الملك العادل الأيوبي بألا يفتي ولا يجتمع بأحد ويلزم بيته تحت الإقامة الجبرية. ويضطر الناس إلى دفن الإمام "ابن جرير الطبري" في بيته خوفا من الرعاع وهو صاحب التصنيف في التاريخ وله التفسير الكامل، الذي قال عنه الفقيه المشهور "الاسفراييني" لو سافر رجل إلى الصين في سبيله لما كان كثيرا، ومات المجتهد أبوحنيفة بالسم غالبا، وجلد الإمام مالك وشهر به، وعذب الإمام ابن حنبل التعذيب الشديد من أجل فكرة، وشنق محمود طه العجوز في السودان لاجتهاد سياسي رآه. وقبل هذا عندما كان الرسول "ص" يضرب في الطائف بالحجارة حتى تدمى قدماه الشريفتان.

كانت مبررات كل ذلك خوف المجتمع من أفكار التغيير، والاهتداء والاقتداء برؤية الآباء "إنا وجدنا آباءنا على أمة" فالمجتمع يحرس شجرته الثقافية بلهيب نار وسيف يتقلب، المحنة ضرورية ولكن ضمن وسطها الذهبي؟!

ما هذا الوسط الذهبي؟

- المحنة يجب أن تأتي ضمن شروطها الحدية ووسطها الذهبي كي تلعب دور "الإنضاج" و"النمو" لا دور السحق والتعطيل. ويبحث عالم النفس البريطاني "هادفيلد" في كتابه "علم النفس والأخلاق" عن المنبه المناسب "PROPER STIMULI" لتنشيط الإرادة، فالمنبه إذا زاد عن حده تحول إلى عامل بغيض غير محرض أدعى للتشنج والتيبس، كما أنه إذا كان فاترا خامدا في الطرف المقابل لم يؤد إلى التحريض المناسب.

يعمل العقل بأفضل شروطه، إذا ملح ببهارات العاطفة، فنقرأ الانفعال في نبرة الصوت وتعبيرات الوجه وحركات اليدين وطبقة الكلام "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول" "محمد: 30".

أزمة الجنين في الرحم كشرط لخروجه إلى الحياة حتى يخرج الجنين من ظلمات الرحم إلى ضوء الحياة، ومن دفء الأحشاء إلى برودة العالم الخارجي، لابد من دفعه إلى قدره بآلية المحنة والمعاناة والتقلص طردا له ليغادر السكون والراحة والدفء والظلام؛ فيخرج باكيا والناس من حوله يضحكون سرورا؛ لتجاوزه عتبة المعاناة بسلام والنجاح في امتحان الالتحاق بالحياة.

ألا يجب أن يكون هناك فترة تخطيط قبل كل هذه التقلصات والإندافاعات؟

- لابد من ارتخاء الرحم في أشهر الحمل الأولى بهدوء لا يعرف التعكير حتى يكتمل نمو الجنين، من خلية واحدة ملقحة إلى مئة مليون مليون خلية، في عشرات الأجهزة المعقدة، وقبلها وبعدها جهاز "الخلق الآخر" ولابد من حض وتبادل تيار "التقلص الارتخاء" كي يتم دفع الجنين من ظلمات الرحم إلى ضوء الشمس، ولابد من تقلص الرحم الواسع المتتابع ليغلق فتحات الدم الرهيبة بعد الوضع وكأنها المنخل أو الغربال في سطح الرحم الداخلي بعد انخلاع المشيمة. سنة الله في خلقه.

إذا، نحن ننتقل بين قطبين أو طرفين للحياة؟

- قطبا "اليأس" و"الأمل" ما أفضل شروط الجري والهرب لإنسان تطارده مجموعة تريد إلقاء القبض عليه؟ إنها الحركة بين قطبين نفسيين "اليأس" من جهة و"الأمل" مقابلها، وهي التي اعتبرها القرآن محطات نفسية للكفر "إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" "يوسف: 87" و"ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون" "الحجر: 3". إذا أحس المطارد "بالفتح" أنه بمنجاة من قبضة من يطارده دخل الطيف النفسي "الأمن" فتوقف عن الركض، وإذا أطبق عليه شعور "اليأس" من جدوى الهرولة توقف أيضا عن السعي، وفي هذه المسافة بالضبط تكون الحركة في أفضل صورها. هذا القانون ينطبق على لص تطارده الشرطة، وجماعة تمارس نشاطا إصلاحيا، وحاكم يدير مؤسسة الدولة.

أين الخطر الأكبر في هذين القطبين؟

- تمرض الجماعة سياسيا عندما تنزلق باتجاه أحد قطبي "الاستضعاف" و"الاستكبار" سواء في داخلها من حيث العلاقة بين الأفراد، أو في علاقات القوة بين الدولة القمعية والفرد، أو بين الدولة القوية والضعيفة، والضعف في حقيقته هو تقبل حقنة الاستضعاف "فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين" "الزخرف: 54".

كيف يبدو دعاة التغيير في العالم العربي والإسلامي؟

- يعامل البشر الشاذ منهم بالسخرية والتندر، ثم العزل والإيذاء، فهو شاعر وكاهن ومجنون، وانتهاء بالتصفية الجسدية، كما فعلت قريش مع الرسول "ص" حتى يتوزع دمه بين القبائل. هذه الآلية تتكرر اليوم في نظرة المجتمع إلى دعاة التغيير، كما يفعل الجسم في المحافظة على نفسه، وتكرار إنتاج الخلايا نفسها، من دون تطور سرطاني فيها، فيما يسعى التغييريون إلى احداث تبدلات في المجتمع والحياة، لكن المجتمع لا يرحب بمقلقي النوم العام، والجو يطالب بكلام لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا، وهنا تكمن مشكلة.

ما ردود الفعل المتوقعة من الناشطين في هذه الحالة برأيك؟

- إذا كان داعية التغيير الخارج عن النظام كذابا، لن يصمد أمام جبروت المجتمع فيطوي لسانه، وإذا كان دعيا فسينزوي ولو بعد حين طلبا للسلامة، وإذا كان صادقا في دعواه استمر في دعوته بسبب ضغط الأفكار وزخمها ودفعها الروحي المستمر، الذي يحرمه الراحة، ما لم يتخلص من هذا الاحتقان والفيض الداخلي، لذلك كان الأنبياء يخضعون لقانوني: العزلة والعودة والنزوح عن مناطق دعوتهم إلى مناطق أخرى تنتشر فيها مبادئهم، فالمدينة استقبلت الإسلام وروما اعتنقت المسيحية، والصين تبنت البوذية، ونبي الإسلام خرج من مكة، والمسيح من الناصرة، وبوذا من نيبال في الهند، ويروى عن الفيلسوف إقبال، أنه كان يناجي ربه فيقول: يا رب إما أن تأخذ عني هذه الأفكار أو ترسل لي من يفهم علي؟!

ماذا يستفيد هؤلاء الناشطون من أعمالهم؟ وماذا يستفيد المجتمع؟

- نار الحقيقة عندما تلسع الملهمين هؤلاء الأفراد المتميزون النادرون المشعون هم الذين يعانون ويمضون في طريقهم فرادى قبل أن يلتحق بهم القطيع ولو بعد حين أو جيل أو أجيال، وعند هذه النقطة بالذات يتطور المجتمع، لأنه يأخذ الفكرة بعد صراع ضاري وتمحيص طويل، فيعتنقها بعشق وتقديس، لأنه يصاب بعدوى عشق الحقيقة من مصدرها المضحي، ويطبقها بكل جبروته الساحق الماحق على الأفراد الضعاف العزل؛ فهذه هي آلية عذاب الأفراد، ومعاناة الصراع الاجتماعي، وتبدل المجتمع وتطوره نحو الأفضل في سياق قانون صارم، حتى يدخل في دورة جديدة، تخبو فيها نار الحقيقة، وتتحول فيها الأطراف بالكلية، فتأخذ كل مجموعة محل الأخرى في صورة مقلوبة تماما، ويجمد المجتمع على رؤية أحادية، حتى تنبعث نار الحقيقة من الرماد ثانية، على يد مصلح ثوري جديد مسته نار الحقيقة فحرمته الرقاد والراحة، فتبدأ جولة جديدة من الصراع الاجتماعي، لا يتفطن لها أحد ممن يخوضون غمار نارها وقلقها، ولكن التاريخ يسجلها بعد ذلك. تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً