العدد 859 - الثلثاء 11 يناير 2005م الموافق 30 ذي القعدة 1425هـ

قليل من الأحلام

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حتى لا يغرق الشعب الفلسطيني مجددا في بحر من الأوهام لابد أن تقوم القيادة السياسية المنتخبة بتوضيح برنامجها، وتحديد النقاط التي يمكن لها أن تحققها في ظل خلل عام في موازين القوى. فالمسألة تحتاج إلى نوع من المصارحة وبعض الشفافية حتى لا يتكرر السيناريو نفسه التي اعتمدته "إسرائيل" مدعومة من الولايات المتحدة في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات.

آنذاك لجأت "إسرائيل" بالتضامن مع أميركا إلى كل أساليب الخداع وناورت على مختلف النقاط الساخنة وأجلت إثارتها إلى وقت لاحق بذريعة أن التوقيع على اتفاق سلام "أوسلو" سيؤسس ديناميات ذاتية تولد مشاعر متبادلة تلغي أجواء الثقة المفقودة. كانت الحيلة تقوم على لعبة طويلة المدى تبدأ بفك ارتباط القضية الفلسطينية بالصراع العربي - الإسرائيلي وعزل فلسطين عن محيطها الإقليمي والتركيز على ما أنتجته التفاهمات الثنائية والقرارات الدولية.

وعلى هذه الأسس الوهمية بدأت السلطة مسار فك ارتباطها مع الوضع العربي بذريعة أن الدول العربية ضعيفة وغير قادرة على تأمين الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. وألحقت السلطة تصورها ذاك بقراءة جديدة لحل المشكلات تعتمد أساسا على نظرية أن الأوراق في يد واشنطن وأن التحالف الإسرائيلي - الأميركي يملك مفتاح الحل.

وبدأت السلطة مشوارها الطويل والمتعرج بعد حرب الخليج الثانية "1990 - 1991" ومفاوضات مدريد التي افتتحت بعد أن نجحت "إسرائيل" في تفتيت الوفد العربي المشترك إلى وفود مستقلة يتحدث كل وفد بمشكلاته ولا يحق له التدخل في شئون الوفد العربي الآخر. وانتهى تفكيك المسارات العربية إلى تجزئة الصراع إلى تفصيلات صغيرة تتعاطى معها الولايات المتحدة منفردة ومن دون تنسيق بين الأطراف العربية.

أسهم التمزق العربي في المفاوضات إلى تفكيك القضية المركزية إلى أجزاء فرعية وتحول التنسيق السابق إلى نوع من التنافس بين الأطراف العربية والتسابق على تقديم تنازلات أو التزاحم في إقناع الإدارة الأميركية بوضع ملفها على رأس جدول أعمال طاولة "طاولات" المفاوضات.

وضمن هذه الأجواء المشحونة بالوعود نجحت واشنطن في استدراج كل طرف عربي إلى زاوية محددة وبدأت باصطياد كل فريق على حدة لمنع الدول العربية من اللقاء أو التفاوض بين بعضها للتنسيق أو على الأقل لتنظيم التنازلات.

وفي هذا السياق لم يكن مستغربا انزلاق القيادة الفلسطينية مدفوعة بالوعود الوهمية نحو التوقيع على اتفاقات غامضة تتحدث عن الكثير من الأمور ولا تتطرق إلى النقاط الجوهرية "الخلافية" بطريقة واضحة. وتحت سقف الانبهار بعدسات التصوير واللقاءات والاستقبالات والتصريحات والتمنيات والجوائز "نوبل للسلام مثلا" انهارت الجدران العربية - العربية وانبعثت من تحتها مجموعة أوهام تعتمد على أحلام وردية يتمنى المرء رؤيتها في المنام.

لم يبق زعيم في أوروبا والولايات المتحدة إلا واستقبل عرفات على أرفع المستويات. ولم تبق عاصمة قرار في العالم إلا وقدمت الوعود والمدائح والأوصاف والألقاب. فعرفات تحول فجأة من رجل إرهابي إلى رئيس يحب السلام وبات محط أنظار الصحافة والهيئات والمؤسسات، تتراكض كل القوى لاستقباله واضعة تحت قدميه السجاد الأحمر وتحيط به فرق الموسيقى لتعزف سنفونيات السلام الآتي إلى "الشرق الأوسط".

فتحت الدول الكبرى لـ "الإرهابي" سابقا أبوابها مرارا واستقبلته واشنطن تكرارا وقدمت له كل ما يريد سماعه من كلام معسول... حتى إنها ساعدته في بناء مقرات للرئاسة والبرلمان وتدريب الشرطة وأجهزة الأمن والمطار وشراء الطائرة الرئاسية وسيارات "المرسيدس" الرسمية السوداء واللوحات الدبلوماسية الزرقاء.

كل هذا فعلته عواصم القرار وأكثر. ومن يراجع إرشيف الصحف ومحطات التلفزة آنذاك سيجد أضعاف الوعود والنصائح والبرامج والخطط والدعوات التي تلقيها أوروبا والولايات المتحدة الآن على مسامع محمود عباس "أبومازن" قبل ترشيحه للرئاسة وبعد انتخابه. فما قيل لعرفات وما سمعه من كلمات وما ناله من جوائز واستقبالات أكثر بمئات المرات من حفلة النفاق الدولي التي تقال الآن لعباس. والنتيجة كانت ما شاهدناه من حصار وظلم وسكوت وصمت وربما تواطؤ للتخلص من تلك العقبة "الرمز".

الآن يتكرر السيناريو نفسه. وعواصم القرار التي تنصلت من وعودها تضع المسئولية على عرفات وتلوم الشعب الفلسطيني على عرقلة السلام وتغطي في المقابل على جرائم شارون وحكومته الإرهابية.

المشكلة مع ذلك ليست هنا. المشكلة أن يصدق عباس الأكاذيب وينجرف مجددا في بحر الأوهام وينزلق نحو السجاد الأحمر وعدسات المصورين... لينتهي في الأخير إلى مشهد مأسوي.

القليل من الأحلام ليس مشكلة، إلا أن الخوف أن تكثر الأحلام وتتحول في النهاية إلى كوابيس تثقل الشعب الفلسطيني وتزيد من إحباطاته. والعبرة في الأخير لمن يعتبر

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 859 - الثلثاء 11 يناير 2005م الموافق 30 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً