لابد في البداية من مساندة مبدأ إتاحة المجال للتعبير عن الرأي الآخر في موضوع المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة أو مقاطعتها. فليس من الصحيح اعتبار طرح الآراء المتباينة في هذا الموضوع من المحرمات سواء كان ذلك من قبل قوى المجتمع، أو السلطة، أو الصحافة وأصحاب الرأي. وليس من الصحيح اعتبار موقف المشاركة أو المقاطعة قضية محسومة ثابتة وفقا للدين أو المبادئ أو المصالح السياسية. بل هو موضوع سياسي متغير يلزم بناء المواقف فيه وفقا لما نعتقده من تأثيرها على المصلحة العامة وخدمتها لحقوق الإنسان.
إن تشدد البعض لصالح المقاطعة بشكل مطلق وبعيدا عن الحوار والمنطق واحترام حرية الآخرين، يقابله تشدد مماثل من البعض الآخر لصالح المشاركة. وإذا كان الطرف الأول يستخدم الوسائل الشعبية مثل المنابر الدينية وشبكة الإنترنت في الترويج لآرائه، فإن الطرف الآخر يستخدم وسائل الإعلام من إذاعة وتلفزيون وصحف تقتصر تقريبا على الرأي الداعم للمشاركة. وهكذا فنحن لسنا أمام حوار وتعزيز لحرية التعبير، وإنما أمام قطيعة ومصادمة، فيما كل طرف يحاور نفسه فقط.
لقد أشادت الكثير من التقارير الدولية المعنية بصدور "الوسط" كصحيفة مستقلة ساهمت في إطلاق المنافسة باتجاه المزيد من حرية التعبير وكشف الحقائق، والموازنة بين نشر الرأي الرسمي والآراء الأخرى. وبالتالي فقد ارتفع مستوى التوقعات في أن تأخذ الصحيفة دورا متوازنا في مختلف الأمور بما في ذلك قضية الانتخابات النيابية. فإذا تبنى بعض الكتاب الدفاع عن رأي محدد، فلابد للصحيفة من فتح المجال للرأي الآخر بشكل متوازن، وخصوصا إذا كانت وسائل الإعلام الأخرى ممتنعة عن ذلك.
إننا في قضية الانتخابات النيابية أمام انقسام واسع في الرأي العام. وإذا كان البعض ينسب التوجه نحو المقاطعة إلى قلة من "النشطاء المتشددين" وإلى فئات شعبية "متدنية الوعي" كما يعتقد، إلا أن مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير تقتضي فسح المجال لمختلف الآراء واحترام أصحابها، وخصوصا إذا كان الهدف هو العمل على التأثير في توجهات الرأي العام وتغييرها. وإن مسئولية وسيلة الإعلام المحايدة سياسيا هو استطلاع وقياس الرأي العام بين فترة وأخرى ونشر الآراء المختلفة، وخصوصا إذا كانت هذه الآراء تمثل فئات شعبية أو مجموعات مهمة في المجتمع.
وبالنظر في الأمور بشكل متعمق، فإن قرار المقاطعة العام 2002 لم يكن مبنيا بشكل كامل على قناعات قيادات ورموز تيار المقاطعة، بقدر ما كان مبنيا على رأي وضغط القواعد الشعبية. فإذا كنا فعلا نرغب في "ترشيد" الرأي العام ضمن إطار الديمقراطية وحرية التعبير، فلابد من التعاطي مع الآراء على المستوى الشعبي باحترامها أولا، وفتح مجال الحوار والإقناع.
ومثلما تقع المسئولية على رموز التيارات الشعبية في طرح الأمور بشكل متوازن ومرن، للابتعاد عن التعصب في الآراء والمواقف، ولتكون هذه التيارات مهيأة لأي تغيير في المواقف السياسية يقتضيه تغير الظروف بما يخدم المصلحة العامة. كذلك فإن على الداعين إلى المشاركة تقديم المزيد من الأدلة المنطقية والعملية لإقناع عامة الناس بأن المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة ستخدم مصالحهم.
وفي هذا السياق، فإن إصلاح المؤسسة التشريعية وزيادة صلاحيات وفاعلية ممثلي الشعب من الأمور الضرورية التي ستصب حتما باتجاه زيادة المشاركة في الانتخابات المقبلة. ولذلك أيضا فإن سياسة الجمعيات المعارضة حاليا في التلويح بالمقاطعة كأسلوب ضغط لتحقيق الإصلاح الديمقراطي قد لا نتفق على مدى جدواها، ولكن ليس من المصلحة تقويض جهود هذه الجمعيات وإضعاف قدرتها التفاوضية بالضغط عليها لتتبنى من الآن قرار المشاركة.
إن خير ما يخدم المصلحة العامة ويخدم إنضاج العملية الديمقراطية، هو إطلاق حرية التعبير، والسماح بتعدد الآراء والمواقف. ولابد للجهات التي تؤمن بالإصلاح من أن تتعاضد وتقوي بعضها بعضا أيا تكن مواقعها، وأيا يكن الاختلاف في مناهجها وأساليب عملها. أما المبالغة في الاختلاف فإنها ستدعم القوى التي تعارض تدعيم الحقوق المدنية والسياسية لأنه يضر بمصالحها ونفوذها
العدد 858 - الإثنين 10 يناير 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1425هـ