أنا أعلم ان الكتابة ليست نزهة في ضوء القمر واعلم انها طريق محفوفة بالمخاطر والالغام، ولكن الذي يجب ان نعلمه أيضا ان الشارع السياسي ليس ملكا لأحد، وليس مسجلا باسمه في السجل العقاري. والمثقف المسئول يجب ألا يكون تحت عباءة أحد فهم رجال ونحن رجال. وكما قال الفقيه ابن ادريس "نحن في الآخرة سنحاسب فرادى وليس جماعات". لا يسيل لعابي تجاه المشاركة ولم احول البرلمان في اعين الناس إلى فردوس من فراديس الجنة، كما اني لم اصوره صورة من صور جهنم. وانا صريح في دعوتي للمشاركة ولم آت بجديد هذه الأيام ولكني احببت ان اقرأ التجربة وفق قراءة نقدية موضوعية لأداء المقاطعين، وطرحت اسئلة وتمنيت الاجابة عليها.
نحن دعاة المشاركة مكثنا طيلة ثلاث سنوات صامتين إلا من تصريح خجول هنا أو هناك، ونحن نرصد الاداء السياسي حتى نكون موضوعيين في النقد، ولطالما شجعنا المقاطعين على دخول الملفات المهمة وكنا نبارك لهم كل تصريح... لكن للأسف الشديد اصبنا بإحباط كبير لضعف الاداء واكتشف الجميع أن جمعا كبيرا من المقاطعين يفتقدون الاستراتيجية وخطة العمل بل هم ليسوا مستعدين لسماع اي رأي. هناك عملية احتكار للساحة السياسية في البحرين ومجموعة صغيرة في المقاطعة ذاتها تحاول ان ترهب حتى الاصوات الخافتة الخجولة المسالمة التي تدعو إلى المراجعة بدلا من المواجهة. وسلاح الانترنت اصبح الوسيلة التي تستخدم للتشهير والسب والشتم. وإن حاول اي رمز بحريني ان يقول كلمته ولو باخلاص ولو كان يمتلك الشرعية التاريخية والتاريخ النضالي فسيجد نفسه مشنوقا على اعواد الانترنت. وفعلا في كل مرة يضعف موقف شخصية هنا وشخصية هناك بسبب هذا الضغط. هذا الجو كان قبل عام اما الآن فاعتقد ان عددا كبيرا تجاوز مرحلة الخوف من هذه الهجومات، وبات على المثقف والرمز ان يقول كلمته فإما ان يقود الحصان العربة او تقود العربة الحصان.
احببت ان اكرر نقطة مهمة وهي اني لست متفائلا تجاه البرلمان، ولا ارى فيه مصباح علاء الدين السحري لهموم الناس بل أرى انه منتقص لكثير من الصلاحيات وفيه ما فيه من الامراض والعلل... كل ذلك انا اتفق عليه ولكني اقول هنا: اين هو البديل؟ واذا لم تملأه فمن يملأه؟ لقد بقينا ثلاث سنوات خارج البرلمان فهل استطعنا ان نوقف المشروعات التي مررت من تحت قبة البرلمان؟ هل نستطيع لاحقا ارجاعها الى مرحلة الصفر لو حققنا الطموح الذي نطرحه في خطابنا؟ هل نستطيع ونحن خارج البرلمان ان نوقف اي مشروع في البرلمان سيمرر اليوم أو غدا وخصوصا ان اهم القوانين والقضايا والمشروعات يلقى بها سراعا للبرلمان ليبت فيها؟
من اضعف المقاطعة ليسوا دعاة المشاركة بل المقاطعون انفسهم. هم لم يعملوا بما يؤمنون به، فالخطابات كانت بين الصعود والهبوط في درجة الحرارة. واحد يقول شمال وواحد يقول جنوب. بعد خراب البصرة وبعد ان طارت طيور البرلمان بأرزاقها واذا بنا نكتشف - او يكتشف الناس لانا نعلم من اول الايام بحقيقة الموقف - أن موقف كثير من العلماء هو موقف المشاركة، وان كانت هناك محاولات للسيطرة على الخطابات المصرحة بوضعها في سياقات خاصة. الكلمة اطلقت، فأصبح التبرير يكرس الرأي المتبنى المخفي ولا ينفيه. اكتشفنا بعد ثلاث سنوات عدم وجود برنامج عمل ولا مشروع، واصبح في القضية الواحدة أكثر من خطاب، وأصبحت الساحة تتقاذفها الخطابات غير المدروسة وبتنا نتحول من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق من "ثقافة تنحب" إلى ثقافة الابتسامات والرضا بالامر الواقع والتعاطي معه ببراغماتية.
وهنا اطرح اسئلة مهمة: ماذا فعلت المقاطعة بازمة التمييز في التوظيف في الوزارات؟ ماكينات الطائفية والتمييز مازالت مستمرة في الوزارات بل هي في ازدياد. السؤال ما مشروع المقاطعين في ذلك؟ عندنا مئات من خريجي الجامعات العاطلين. ماذا فعلت المقاطعة طيلة هذه الفترة لهم؟ اين موقف المقاطعة من ملف البعثات؟ مئات البعثات كادت ان توزع بلغة طائفية لولا تدخل الصحافة وجمعية الجامعيين! أين هي المقاطعة من عدم تثبيت 340 طبيبا راحت تتقاذف بهم وزارة الصحة وديوان الخدمة؟ اين كانت المقاطعة من 600 ارض وقضية للأوقاف الجعفرية؟ بل لماذا صمتت المقاطعة امام ملف الفساد في الاوقاف الجعفرية ولم تحرك الشارع في ذلك؟ أين هي المقاطعة من ملف التقاعد والتأمينات ألم يكن بإمكانها تحريك الشارع والكوادر عبر دورات ومؤتمرات... الخ. أين كانت المقاطعة من توزيع بيوت الإسكان؟ أين هو الضغط الذي يمارس لأجل السواحل المأخوذة من اقصى الشمال إلى اقصى الجنوب؟أين هو موقف بعض هؤلاء المقاطعين مما حدث في وزارة الكهرباء من تعسف وطائفية؟ وأين هي المقاطعة مما يجري في السياحة من هموم اخلاقية وسلوكية و... أين هي المواقف العملية من الفساد المالي والإداري؟ انا لا اجرد المقاطعة من كل شيء، ولكن - والحق يقال - في الملفات المهمة كان يمكن ان يكون للمقاطعة دور ضاغط.
المقاطعة ركزت على: "مؤتمرات، مسيرات، عرائض، بيانات". شيء جميل ولكن أليست بقية الملفات تحتاج إلى ضغط كبير. لماذا لم تخرج عرائض أو مسيرات أو خطب صارخة متوعدة في ملف التأمينات والتقاعد أو ملف الأوقاف أو ملف التمييز أو ملف التجنيس؟ حتى البطالة ضاعت من ادبيات الخطاب. لماذا لا تتم متابعة آلام المواطنين المتزايدة في الوزارات؟ ألا تستحق الى توثيق وتسجيل وضغط ومتابعة وتشكيل فرق عمل؟ الساحة يجب ألا تحتكر في اشخاص او كاريزميات. لقد انتهى زمن التهميش والاقصاء واحتكار المنابر وليست هناك بابوية او كنسية في الاسلام، فلنترك للجمهور ان يقيم الاداء عبر انجازات على الأرض وليس عبر الشعارات الفضفاضة التي لم تطعم خبزا ولم تسمن او تغن من جوع
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 858 - الإثنين 10 يناير 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1425هـ