قضية مراسل تلفزيون العربية في الكويت الأسبوع الماضي وتداعياتها المختلفة طرحت وتطرح قضية أكبر من الحدث نفسه، وهي قضية مستقبل الإعلام الرسمي في المنطقة العربية بدءا من دول الخليج. حال الإعلام العربي الرسمي حال يرثى لها على أقل تقدير، هي أمام زخم التحولات الكبرى في منطقتنا تحتاج إلى إعادة نظر شجاعة، فلم تعد "بيروقراطية" الإعلام الرسمي قادرة مهما تلبست من لبوس، أن تسابق تطور الإعلام غير الرسمي، وغير الخاضع للخوف من التجربة والخطأ، وخطوط حمراء متداخلة شعبية ورسمية.
ولقد بدأت مضايقة الإعلام الرسمي منذ فترة طويلة، كانت الصحافة الرسمية هي أول من فقد قدرتها على التأثير في الجمهور، وبعد أن كانت هذه الصحافة محتكرة من الحكومات مباشرة أو بشكل غير مباشر، انطلقت بعيدا عن السياج الحكومي. قال البعض وقتها إن ذلك مضر بسياق ما تريد الدولة أن تعبر عنه، ولكن هذا القول ما لبث أن تلاشى أمام التجربة.
على النطاق العربي، كانت هناك سيطرة على الصحافة العربية نتيجة المقولات السياسية التي توافقت مع تطبيق الاشتراكية، ومع توجيه الشعب من مكان مركزي حتى لا يضل طريقه! إلا أن هذه المقولات سرعان ما فقدت هيبتها لدى العامة والخاصة، بعد تغير البيئة الدولة وانحسار الحمائية الاقتصادية والسياسية.
ولكن حتى يومنا هذا، إن نظرنا إلى المنطقة العربية بكاملها، نجد أن بعض الدول العربية، مازالت تراوح في المنحى القديم، منحى السيطرة على عقول الناس والمواطنين، عن طريق إعلام مركزي لا يترك شاردة أو واردة إلا ويحصيها خوفا من تلوث عقول الناس بالجديد! بعض الدول العربية فكت قيود الصحافة وسمحت لمؤسسات أو أحزاب أو حتى بعض الشركات الخاصة للقيام بنشر الصحف، وفي بعض الدول الاخرى وان فكت قيود الصحافة، فقد قيد المرئي من وسائل الإعلام، فأصبح التلفزيون منطقة محرمة لا تقوم بها إلا الدولة وأجهزتها.
وكما حدث في الصحافة عندما هجرت من الناس، وأصبحت تقريبا نسخة واحدة مهما تعددت العناوين، هجر الجمهور العربي التلفزيون الرسمي إلى محطات أخرى. فانتشر بعد التقدم في تطور وسائل البث والاتصال، عدد وافر من المحطات التلفزيونية العربية، بعضها ممول من شركات خاصة وبعضها ممول من دول بغطاء أو حتى من دون غطاء.
كما قامت الدولة العربية بتقنين إطلاق محطات تلفزيونية خاصة من فوق أرضها كما حدث في الكويت أخيرا، إذ انطلقت أول محطة فضائية تلفزيونية في بداية شهر رمضان الماضي.
انتقلت بعض محطات التلفزيون العربية من الإفراط في التوجيه إلى الإفراط في الترفيه تنافسا على جذب المشاهد، ومن يستطيع أن يجلب أنظار الكثرة من المشاهدين يستطيع، أن يغري المعلنين بنشر إعلانات أكثر، وبالتالي موازنة تمويلية أكبر.
حال الرفض العام في المنطقة العربية اجتماعيا وسياسيا غذت تحقيق أهداف هذه المحطات التلفزيونية العربية في قبول الإفراط في الترفيه والإفراط في المبالغة، وضاعت الصدقية والمهنية. وكلما شعر المشاهد العربي أن ما يقدم له في التلفزيون "يفش خلقه" كما يقال، أقبل على المحطة مشاهدة، وانتقلنا من مركزية التوجيه إلى الإثارة بإشكالها المختلفة الإنسانية والسياسية.
هناك مقولة تشبه القاعدة العملية، يعرفها أهل الذكر من الإعلاميين تقول بالانجليزية "if its bleeds it is lead" وهي تعني بكلام شعبي أنه كلما كانت القصة الإخبارية تنزف بالدم، كانت هي القائدة لأخبار المساء! أي أن التسابق على الخبر المثير، هو الذي يقود المحطات التلفزيونية، وخصوصا الإخبارية، على نشر ما يصلها من الغريب والمثير، لذلك فإن الإثارة هي سيدة الموقف، وحالات انفجار العنف تشكل العناوين الرئيسية.
ربما هذا ما حدث في قضية "العربية" الأسبوع الماضي، وهي قد قامت بعمل حرفي أيضا عندما نفت الخبر. في الانتخابات الأخيرة دست على أكبر محطة تلفزيونية أميركية مجموعة وثائق قيل إن لها علاقة بتزوير الرئيس المرشح وقتها جورج بوش في أوراق التحاقه بالحرس الوطني الأميركي، سرعان ما اتضح أنها مزورة، فاعتذرت المحطة التلفزيونية، وأيضا فقد أحد مقدمي البرامج المخضرمين وظيفته التي شغلها بنجاح لسنين من الزمن. فالإثارة إن لم قابلها مهنية عالية، وقعت في شر أعمالها!
لا يستطيع أحد منا أن يحلم بمثل هذا الأمر في محطاتنا التلفزيونية لأن "ثقافة الديمقراطية" غير متوافرة، والخطأ الإعلامي إن وقع، فالتبرير جاهز، انه نتيجة خطأ "الطليان" كما يقال في الأمثال اللبنانية.
بعد وفاة الرئيس المرحوم ياسر عرفات ظهر أحد المعلقين الفلسطينيين على إحدى شاشاتنا المتلفزة، واتهم محمود عباس، بأنه من الطائفة البهائية "وهي تهمة تقتل الشخصية قتلا" في مجتمع مثل المجتمع السياسي الفلسطيني، ومن دون أن يكون هناك رأي آخر مرر الاتهام على ملايين من المشاهدين من دون أن تطرف عين للمحطة!
الانتقال إلى الإعلام غير الحكومي أرى انه مقبل، فهناك الآن محطات إذاعية مسموح لها بالبث، وهي محطات تجارية محلية وعالمية، وهناك أيضا مناطق إعلامية حرة تبث منها محطات تلفزيونية عدة، وعاد الإعلام العربي "الهارب" وقت الشدة والتضييق، إلى الغرب في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، عاد إلى الشرق من جديد، يساعده في ذلك الانتقال السريع تقدم هائل في وسائل التقنية الحديثة، وانفراج نسبي في تقبل الرأي الآخر في بيئة عالمية تنادي بالانفتاح، إلا أن التقنية هي سيدة الموقف، فالزمن ليس بالبعيد أن نرى محطات تنشأ بكلف زهيدة وتكون متوافرة لقوى المجتمع الأهلي.
إن ما ينقص هذا الإعلام غير الحكومي ثلاثة عوامل، هي: أولا، رأس مال عال يستطيع أن يقدم خدمة تلفزيونية غير مؤجرة سياسيا، فعدد من المحطات الشخصية إن صح التعبير، انطلقت ابان "هوجة" المحطات، وهي في الغالبية الأعم محطات ابتزاز أكثر منها خدمة إعلامية أو حتى تجارية، أو لها رأي متسق ومستقل. وثانيا، مظاهر النقص، تقع في إطار ما يسمى في المهنة بـ "المهنية العالية"، أي ان مهنة الإعلام لها ضوابط أخلاقية وعلمية، إن افتقدت عناصرها افتقدت الشيء الكثير، والمهنية هنا تعني تدريبا للكوادر، وبالتالي صرف مال وفير لهذا التدريب، ويعني الالتزام بمدونة أخلاقية عالية، تتيح لعمليتي التقصي من الأخبار وضبطها فرصة أكبر، ودقة أكثر.
إلا أن هناك مدخلا آخر في الإعلام الحديث مهم وقد لا يراه البعض لأنه بطبعه غير مرئي، وهو سيساعد على تقليل أهمية الإعلام الحكومي أو شبه الحكومي في منطقتنا، وأقصد به الإعلام على الشبكة الدولية "الانترنت"، ومن يعرف أو يتعرف على هذه الشبكة، سيصاب بالذهول، نعم... الذهول، لا غير، لأن من يتابع ما ينشر على هذه الشبكة، وخصوصا من الشباب العربي، وخصوصا أيضا في منطقة الخليج، سيصاب عقله بالدوران، ولست مبالغا. فأنت إن أردت أن تعرف آخر الإخبار والمواقف السياسية أو غيرها، أو حتى الدراسات الجادة، عليك بالاطلاع على هذه الشبكة، وهناك عشرات الآلاف من المواقع التي تقدم الأخبار والتعليقات، وهي تنبئ بحال "الرفض" التي يعاني منها الشباب.
الشجاعة الأدبية تقودنا إلى الاعتراف بأن الإعلام الحكومي يلفظ أنفاسه، وما نراه من مقاومة هو من قبيل الاستمرار على ما عرف من قبل، وليس له علاقة بالتطور الحاصل، فلم تعد الأجواء في العالم مغلقة كما كانت قبل بضع سنوات قليلة والمقبل يشكل ثورة حقيقية، لن تقف أمامها بيانات النفي أو بيانات الاستنكار.
قيل إن الإعلام قوة، وهو اليوم قوة تناهز قوة الجيوش الجرارة، وانظروا حولكم ترون تأثيره الغامر والسريع
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 858 - الإثنين 10 يناير 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1425هـ