انتهت الانتخابات الرئاسية الفلسطينية إلى النتيجة المتوقعة. فالناس صوتت بغالبية 66 في المئة من المقترعين لمصلحة المرشح محمود عباس "أبومازن" الذي تكاتفت مجموعة عوامل دولية وإقليمية على اختياره. فعباس مرشح تسوية كما قالت عواصم القرار وهو الوحيد المؤهل للتفاهم مع الاحتلال وانتزاع دولة فلسطينية "قابلة للحياة".
الشعب الفلسطيني وضع أمام خيار وحيد: إما عباس وإما الغضب. وبين الأوهام والكوارث مال الناخب الفلسطيني إلى تصديق الأوهام تجنبا للكوارث. فالسياسة في النهاية فن الممكن. والممكن الآن هو القبول بما هو معروض وعدم التفكير في المطلوب. وهكذا كان.
من الصعب الآن إعادة عقارب الساعة، وعلى الطرف المقاطع أن يقبل الواقع ويعترف بالنتائج. وهذا ما يبدو أن "الجهاد" و"حماس" ومختلف الفئات الفاعلة اتجهت إلى إقراره مع وجود بعض العنعنات.
الانتخابات إذا انتهت إلى تثبيت ما اختارته موازين القوى. فالسياسة فن وفي الآن مجموعة موازين تقررها القوى الفاعلة على الأرض إضافة إلى تدخل الخارج في تحديد خيارات الداخل باستخدام المؤثرات عن بعد، كما حصل في انتخابات أوكرانيا مثلا.
وما حصل في أوكرانيا لماذا لا يتكرر في بلدان أخرى؟... وفلسطين هي من الدول المحتلة التي لا يعترف المحتل بشعبها ويدعي أن حقوق هذا الشعب ليست موجودة وما يقدمه إلى الفلسطينيين منحة مفروضة عليه يعطيها ساعة يشاء ويأخذها متى أراد.
ضمن هذا الإطار يمكن فهم الانتخابات الرئاسية الفلسطينية. فالاختيار جاء في دائرة وسطى بين فن الممكن وموازين القوى. وبين هذا وذاك لم يكن أمام الناخب سوى الخيار الوحيد الذي يبقى في النهاية أفضل من تهديدات أميركا وبريطانيا و"إسرائيل" بالأسوأ.
عباس الآن رئيس فلسطين حتى إشعار آخر. وعلى كل القوى السياسية "المقاطعة والمشاركة" الإقرار بالواقع والاعتراف بالنتيجة لأن الوحدة الفلسطينية هي من الثوابت التي حضنت القضية وحصنتها. والوحدة لا تأتي من فراغ، فهي نتاج تزاوج لابد منه بين الطرفين. فالرابح في الانتخابات يجب أن يحترم الخاسر "أو المقاطع" ويعمل على تكوين مؤسسات تعطيه الحق في الاعتراض. وعلى الخاسر أن يقر بالنتيجة ويحترم صلاحيات الغالبية وحقها في تحديد خيارات الناس السياسية إلى فترة انتهاء رئاسة عباس. وفي حال توصلت القوى السياسية الفلسطينية إلى هذا المستوى من الاتفاق تكون فعلا أنجزت خطوة تاريخية على صعيد تكريس تقاليد الاعتراف بالآخر واحترام التعددية تحت سقف المشترك الوطني. وهذا يبدو ما صرحت به مختلف الأطياف الفلسطينية.
الاتفاق على الوحدة الداخلية هو الضمانة السياسية التي تحصن الشعب الفلسطيني وتحد من احتمالات الانتكاسة حين يكتشف الناس أوهام الوعود. والشعب الفلسطيني الذي مر سابقا بهذه التجربة يملك من الطاقات والخبرات التي تسعفه على تحمل النتائج حين يخرج من أحلام اليقظة. فالناس لم تنس تلك الوعود التي سمعت بها حين وقع اتفاق أوسلو وما تلاه من ضمانات دولية وأميركية في العام .1993 والناس أيضا لم تفقد ذاكرتها حين صوت الشعب الفلسطيني بغالبية 76 في المئة للمرشح الرئاسي ياسر عرفات في العام .1996 وكذلك لاتزال تذكر تلك الأوهام التي زرعت حين قيل في مئات التصريحات والمقالات عن تلك المساعدات التي سترفع سنوات الظلم وتعوض ما لحق بالشعب من كوارث طوال نصف قرن.
ومن ينظر عشر سنوات إلى الوراء يرى ويقرأ الكلام عن تحويل غزة إلى هونغ كونغ "الشرق الأوسط" أو سنغافورة البحر المتوسط، وكيف صدق الناس الوعود وحصدوا في النهاية: ارييل شارون.
الآن يقال الكلام نفسه مع قليل من الرتوش وبعض التواضع. فشارون وعد بلقاء عباس. واللقاء لا يعني السلام وإنما بداية اختبار لمدى قدرة الرئيس المنتخب على التنازل عن الثوابت. فشارون ينظر إلى السلطة الفلسطينية كجهاز أمني ولا يرى فيها سوى تلك الأداة وهذا ما رفضه عرفات وانتهى إلى ما انتهى إليه.
المأساة الآن أن شارون قلب الطاولة ونجح في تصوير الواقع عكس حقيقته في وقت استمرت الوعود مع القليل من الأوهام. فشارون لم يعد عباس بهونغ كونغ وسنغافورة... وعده فقط باستقباله في حال فوزه. وهذا أضعف الأوهام
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 858 - الإثنين 10 يناير 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1425هـ