العدد 858 - الإثنين 10 يناير 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1425هـ

عند الموت نحتاج إلى الجمال والشر لا يموت

"تيري تيشأوت" الناقم على ما بعد الحداثة:

المنامة - عادل مرزوق 

تحديث: 12 مايو 2017

تيري تيشأوت، ناقد موسيقي بمجلة "كومنتاري" وناقد مسرحي لصحيفة "وال ستريت جورنال"، يكتب عمودا بعنوان "مدينة ثانية" في صحيفة "واشنطن بوست". وأحدث كتبه هو كتاب "المتشكك"، يقدم في إحدى قراءاته الثقافية رؤيته الخاصة بالحداثة وما بعد الحداثة وما بعد ما بعد الحداثة في أميركا، يتمتع تيري بقلم جميل سلس، وبروح دعابة تتسم بالجمال الذي يحاول الدفاع عنه في مواجهة ما بعد الحداثة رمز "الفوضى" و"العبث" الذي يقضي على روح الجماعة الأميركية تارة، ويحارب الناس في احاسيسهم وإنسانيتهم تارة أخرى.

الجاز، الرقص، السينما المتحركة

أنتجت الولايات المتحدة للحداثة الفنية ثلاثة أنواع فنية جديدة هي "الجاز" و"الرقص الحديث" و"السينما المتحركة". كما جذبت الولايات المتحدة مهاجرين من جميع أنحاء العالم تم استيعاب أعمالهم بسرعة في التيار الرئيسي للثقافة الأميركية، ولعبت قوة الإعلام الجماهيري الدور البارز في جعل المنتج الثقافي الأميركي منتجا شعبيا للجميع من دون استثناء، ما اعطى الولايات المتحدة صيغة الدولة الجامعة لشتات الفنانين من شتى أقطار الأرض. الناقد الفني "كليمينت غرينبيرغ" يشير إلى ان ثمة واجهتين للثقافة الأميركية، واجهة مميزة وتمثلها العناصر المنتجة الحديثة وواجهة الثقافة الشعبية المتوسطة والتي تكاد تهدد الواجهة الأولى بقوة، ويصف "العقل الأميركي" بأنه يقدم مثالا بإيجابيته واستعداده للإبداع لتحقيق نتائج سريعة. غرينبيرغ كما يذهب - تيري تيشأوت - لم يدرك أن تلك النتائج قد تخدم كأساس لأسلوب فني أميركي الطابع، أسلوب يمزج العالي والمتوسط والمنخفض، ما يرفع مكانة الثقافة الشعبية مقارنة بالثقافة الجادة، لقد كانت عملية توازن صعبة.

يتساءل تيري تيشأوت عن وضع الفن الأميركي الآن بعد أن بلغ عصر الحداثة نهايته؟ الحقيقة أن الفن في أميركا يخرج من فترة زمنية صعبة. فبدءا بفترة الستينات من القرن الماضي وقعت الثقافة الأميركية للمرة الأولى في تاريخها القصير ضحية فكرة سيئة كان لها أثر كبير، وهي فقدان "الإرادة الجماعية" إذ يتهم تشأوت ما بعد الحداثة بأنها لم تكتف بعدم اعتبار أي شيء أميركي عظيما، بل إنها رفضت فكرة العظمة نفسها.

الحركة الحديثة من نهايتها

يرى تيري تيشأوت ان الحركة الحديثة للفن في الولايات المتحدة بكل ما تضمنته من أهمية تاريخية تقترب من نهايتها. لا يعني ذلك أن جميع فناني الحداثة الأميركية توقفوا عن تقديم أعمال مهمة. ويركز تيري تيشأوت على أن حركة الحداثة بمجملها قد "تردت" مع مرور الوقت، كما يحدث للحركات عادة، وتحولت إلى ايديولوجيا متصلبة عكف المتحدثون باسمها في العادة على التوصل إلى استنتاجات زائفة مبنية على فرضيات زائفة. في تلك الأيام كان الرسم التجريدي والموسيقى غير النغمية والرقص غير المصمم تقدم كحتمية تاريخية، ومن خلال جدل شبه ماركسي كان من يدافعون عنه يسعون في معظم الأحيان إلى إسكات معارضيه، على طريقة ماركس. لقد حان وقت التغيير وأنكشف الغطاء.

ويعمق تيري تيشأوت هجومه على ما بعد الحداثة في حقلها الفني فيرى أنه على رغم كل الكتابات المستفيضة من "النثر المشوش" التي كتبت عن ما بعد الحداثة، فإن فرضيته الأساسية واضحة تماما. ويمكن بصوغ تناقض ظاهري القول إن ما بعد المحدثين هم نسبيون مطلقون. وهم لا يؤمنون بالحقيقة والجمال، ويدعون عوضا عن ذلك بأنه ليس هناك أي شيء جيد أو حقيقي أو جميل بحد ذاته، بل ان "الجودة" و"الحقيقة" و"الجمال" و"النوعية" هي تركيبات يفرضها الأقوياء على غير الأقوياء لأسباب سياسية. لذلك لا يمكن أن يكون هناك فن عظيم ولا فنانون عظماء، أما شكسبير وبيتهوفن فهم مجرد أدوات رأسمالية استخدمت لتخدير الجماهير ولدعم الطبقات الحاكمة المتدهورة في الغرب. وكانت العشوائية بالنسبة إلى فنان ما بعد الحداثة لا تقل جودة عن النظام، والضجيج لا يقل جودة عن الموسيقى، اذ أن جميع الطروحات الفنية وجدت متساوية، مع أن تلك التي ابتكرها غير الأقوياء اسميا كانت أكثر تساويا من غيرها.

يصف تيري تيشأوت ما بعد الحداثة بالسخف الذي لا يحتاج الى تفنيد، إلا أنه يرى أن نتائجها الإجرائية لم تكن سلبية على الدوام، على الأقل هي وضعت نهاية لأرق الحداثة التي لم يكن من السهل أن تنتهي. ونتيجة عدم اكتراث ما بعد الحداثة "بالنوعية" تحديدا فقد شجعت أيضا الدمج بين الأساليب غير المتشابهة، وهي طريقة مناسبة تماما للفنانين الأميركيين الذين كانت لديهم دائما نزعة نحو صهر تجمعات غير متجانسة للعناصر الثقافية في خليط جديد براق كالجاز والرقص الحديث. لطالما توصف الولايات المتحدة بأنها مجمع الاختلاف والمختلفين، فأتت فترة ما بعد الحداثة لتصنع هذه الرؤية معرفة وفلسفة وثقافة كونية لا أميركية وبحسب، وأتاحت للفنانين المحبين للتقاليد مساحة للتحرك، خصوصا مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية الذين مازالوا يؤمنون بالقانون الطبيعي للنغمية التي اعتبرت شيئا مقيتا منذ أمد طويل من قبل الحداثيين.

البوادر الفارغة للفن النظري

الناقد "هيو كينير" عرف الفن النظري بأنه "الشيء الذي إذا تم وصفه لا تكون هناك حاجة إلى تجربته". كان من المتوقع من جماهير ما بعد الحداثة الأميركية في معظم الأوقات أن يقبلوا البوادر الفارغة للفن النظري الأميركي هذا اليوم والذي حلت فيه النظرية مكان المضمون. وخلال تاريخ الفن كله لم تنتج حركة نظرية رئيسية قدرا أقل من الفن مقارنة بما أنتجته حركة ما بعد الحداثة. ولم تبلغ في نهاية المطاف أكثر من مجرد مجموعة من المواقف، في مقدمتها تهميش فكرة الجمال واستبداله بالسخرية المخيفة المنطوية على الضحك الماكر والتي أصبحت العلامة المميزة للثقافة الأميركية في فترة التسعينات. وقد كان موقفا عقيما من الناحية الجمالية، ولهذا السبب كان محكوما عليه بالفشل، مع أنه لم يكن أحد يتصور أن تأتي مناسبة رهيبة ثبت فيها أنه بلغ نهايته.

يعتقد تيري تيشأوت ان أحداث "أوكلاهوما" و"الحادي عشر من سبتمبر" كانت ضربة كبرى لتيارات الما بعد الحداثة، ففي ذلك اليوم الذي لا ينسى استيقظ الأميركيون على ما ذكرهم بشكل فظ بأن بعض الأشياء ليست مسألة رأي. وقد وجدت حتى أكثر أحياء منطقة منهاتن اهتماما بالأزياء نفسها غارقة في الخوف ومزينة بالأعلام، وعادت كلمة "الشر" بسرعة إلى مفردات جيل من الأبرياء المتعلمين الذين كانوا يعتقدون أنه ليس هناك "شر".

ما الذي سيطر على احتفالات الموسيقى عندما تم تفجير مبنى التجارة، قام "يو" - يوما بعزف موسيقي لباخ، وقدم "كيرت مازور" وفرقة نيويورك السيمفونية "الجناز الألماني" لتراهم البلاد بأسرها عبر شبكة التلفزيون والإذاعة العامة. يقول الملك العجوز أركيل "إن المرء بحاجة ماسة إلى الجمال حين يقترب من الموت". وما كان الأميركيون بحاجة إليه في أوقات الشدة هو الجمال، ولم يساورهم الشك أبدا للحظة واحدة في أن الجمال شيء موجود. كان خيارهم الحداثة وما لم ينتبهوا له تحديدا هو كل ما تدعوا له "ما بعد الحداثة".

ما بعد الحداثة لم يكن عصرا

هذا التجديد الجماعي للإيمان بقوة الحقيقة والجمال لم يظهر فجأة صباح الحادي عشر من سبتمبر/أيلول .2001 لقد كان موجودا، كما أن ما بعد الحداثة لم يكن عصرا بل فصلا، ومرحلة انتقالية تدريجية من عهد إلى عهد آخر. وما نراه الآن في المقابل هو ظهور أسلوب جديد أصيل لم يقم أحد بعد بصوغ عبارة جديدة له أفضل من "ما بعد ما بعد الحداثة". فقد كان واضحا، على سبيل المثال، في الاستعداد المتزايد للمخرجين السينمائيين الأميركيين ذوي النزعة المستقلة للتعامل مباشرة وبأسلوب جميل مع مشكلة نسبية ما بعد الحداثة. وصادفناه في فيلم "عالم الأشباح" لـ "تيري زويجوف" إذ يقدم هذا الفيلم قصة مؤثرة لاثنين من المراهقين الساخطين الواقعين ضحية جحيم ثقافة شعبية بالية تجمع بين مراكز التسوق والمتاجر المحلية والموسيقى التي تعزف في الأماكن العامة، يعيشان في بحر النسبية، بمعزل عن والديهما اللذين ولدا في فترة رائدة، كانت تحمل الجمال والحب.

يسرد تيري تيشأوت الكثير من النماذج الفنية الأميركية الغارقة في ما بعد ما بعد الحداثة، سواء في فنون الرسم أو الغناء أو الرقص، ويشير الى أنه حين يتعلق الأمر بالفن في ما بعد ما بعد الحداثة في أميركا، فلا يهم أين تحقق ذلك أو ما هو الإسم الذي تطلقه عليه، طالما أن النتائج كانت جميلة. وليس من المصادفة أن فناني ما بعد ما بعد الحداثة مستعدون بصورة متزايدة لاستخدام كلمة جميلة من دون وضعها داخل علامات الإقتباس الوقائية التي تعبر عن السخرية الما بعد حداثية. ويقول "بول مورافيتش"، عضو مجموعة مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية الأميركيين الذين أطلقت عليهم لقب النغميين الجدد "في محاولتي لتأليف أشياء جميلة فإنني أقول ما أعني وأعني ما أقول. والمفارقة في عملي ليست ما بعد الحداثة بطلاقة اللسان، بل الأساس في جعل خبرة الجدل المنطقي الأساسي والغموض مسموعة". ويتفق معه لويل ليبرمان، وهو مؤلف موسيقي أميركي آخر رفض العدمية الشديدة للرياديين لاحتضان النغمية التقليدية، إذ يقول "هناك بطبيعة الحال ردة فعل قوية من الحرس القديم، ولكن التيار آخذ في النهاية في التغير".

الحق في صنع فن جميل

من غير المتوقع كما يرى تيري تيشأوت أن يوافق أسامة بن لادن وأصدقاؤه الحميمون الذين حظروا الموسيقى العلمانية في أفغانستان على مثل هذا الكلام. فبالنسبة إليهم، كما هو الحال بالنسبة إلى كل متشدد آخر فإن الجمال الدنيوي ليس سوى وهم، وصرف للإنتباه عن القضية الحقيقية الوحيدة. ولكن إذا كان الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول قد علمنا أي شيء فهو أن الجمال حقيقي، حقيقي حقيقة الشر، وجدير بأن نناضل من أجله. وهذا هو ما يفعله "ليبرمان" "مورافيتش"، "مارك موريس" و"كينيث لونيرجان" وغيرهم من فناني ما بعد ما بعد الحداثة في أميركا. إنهم يناضلون من أجل الحق في صنع فن جميل، وهم ينجحون في تحقيق ذلك





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً