تتحدّث بعض النصوص الدينية عن دُنَا أخرى غير دُنيانا في أزمنة غابرة. هي وإن جرى الحديث بشأنها جدلا فإن ما يُشاهَد اليوم هو مُتّفِقٌ معها، ولكن في تعدّد العوالم. فحولنا تجري مسارات افتراضية تُدرَك ولا تُوصَف. تماما كما هي المشاعر بين الناس.
فالمرء يكادُ يُجزم أن ما يراه بالعين في السياسة والاقتصاد، يُوجد مثيل له في البواطن. خطط وبرامج وأهداف وآليات وشخوص تعمل لتحقيق مُرادٍ مُحدّد لكنها غير ظاهرة لأحد. هي باختصار منظومة تُوجّهها دفّة استخباراتية.
قبل أسابيع طَرَدَ السودان 13 منظمة إغاثة غربية، وبقي منها 108 منظمات كلها يعمل في دارفور. ربما يمرّ الحدث بلا أهمية تُذكر لكن حقيقته تكتنف ما يدفع المرء لأن لا يقتنع بهزّ كتفه فقط.
من «أوكسفام»، و»أطباء بلا حدود» مرورا بـ»كوربس» و»بيل» و»مليندا غايتس» تُمسي هذه المنظمات أحد أهم الأذرع الدولية في صوغ ما يجب أن يكون في بلدان ضعيفة في وسط إفريقيا.
هذه المنظمات تتبنّى أشد المهمّات حساسية وكُلفة؛ لكنها لا تقبل أيضا بأقل من قرار سيادي يُتيح لها هندسة الخطط الاقتصادية للبلدان المنكوبة، وحقنها بما يكفي من سائل لكي تبقى مُعتمدة عليها.
لك أن تتخيّل أن 4.7 ملايين إنسان يعتمدون على هذه المنظمات في إقليم دارفور وحده! وأن في أفغانستان وحدها يوجد أكثر من ألفي منظمة إغاثة تستحوذ على ثمانين في المئة من خدمات الحكومة للمواطنين!
اليوم تحتكر هذه المنظمات 85 في المئة من مساعدات واشنطن التي تمنحها لدول فقيرة. في بحر عام واحد أُنفِقَ 325 مليار دولار من المساعدات لم يكن نصيب الحكومة الأميركية منها سوى الثلث. (راجع Foreign Policy عدد يوليو/ تموز، أغسطس/ آب 2008).
ما يسترعي الانتباه هنا تعاظم موازنات هذه المنظمات. منظمة (كير) ارتفع إنفاقها ثلاث مرات ليصل إلى 607 ملايين دولار. منظمة «أنقذوا الأطفال» هي الأخرى تضاعفت موازنتها ثلاث مرات. أما «مرسي كوربس» فقد زادت نفقاتها 700 في المئة خلال عشر سنوات فقط. (راجع المصدر نفسه).
حين نتحدث عن هذه الموازنات فإننا نتحدث عن مشاريع لا يُمكن أن تُسَكَّ على مسار إنساني إغاثي بحت. هي تنحو باتجاه توظيف هذه الإمكانيات لتكريس سياسات تفصيلية تخدم مثيلتها ضمن الفضاء العام.
نحن لا نتحدث عن سياسات تبشير، على رغم أن أعداد المسيحيين الكاثوليك ارتفعت في إفريقيا جنوب الصحراء 6700 في المئة نتيجة لسياسات التبشير النشطة!. لكننا نتحدث عن علاقة هذه المنظمات بدول عُظمى، وبمراكز نفوذ دولية.
نتحدث عن توقيع لجنة الإنقاذ الدولية مذكرة تعاون مع المحكمة الجنائية الدولية قبل أربعة أعوام. وتسهيل دخول أربعة صحافيين هولنديين لتصوير الجنجويد. نتحدث عن تصريحات روبيرتا بشأن إبادة جماعية في الإقليم وتشريد للاجئين، وما تقوله نيكي سميث عن جرائم تجري على قدم وساق في معسكر «كلمة».
نحن نتحدث عن تجيير للقرار 1591. وعن صراعات يتم التحكّم فيها ضد قبيلة الزغاوة. وعن تقارير «ACF» الفرنسية و»CHF» الأميركية و»NRC» النرويجية الاستخباراتية. وتهريب الوقود للمتمردين، وتحريض قبائل الدينكا والمسيرية ضد بعضهما بعضا.
ما الذي يدفع القِسْ «جون دانفورث» وهو أيضا مبعوث أميركي للسودان لأن يقول «إن وقف الحرب الأهلية في السودان، يمكن أن يفتح الباب أمامه ليصبح دولة نفطية كبرى في إفريقيا»!
هنا يبدو أننا مَلَلْنا المؤامرة ونفيها بالسّواء. في السابق وعندما كنا نَلُوك كلّ شيء بطعم الاتهام كانت الأمور حقا تأخذنا إلى مستنقع التمرّغ في وحل المظلومية بإطلاق. وكان ذلك غيّا يشي بنرجسية مُفرطة. لكن تحوّلنا اليوم إلى التبرؤ التام من سلوك الآخرين ضدنا بات هو الآخر خطأ يحتاج إلى تصويب.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2395 - الجمعة 27 مارس 2009م الموافق 30 ربيع الاول 1430هـ