ارتبط مشروع تشكيل الدولة الحديث في البحرين بشكلها ومضمونها البدائي في توجه بريطانيا (عبر الإدارة البريطانية في الهند حتى العام 1947 ومن ثم مباشرة من لندن بعد ذلك، وذلك لأن بريطانيا كانت مسئولة عن حماية مشيخات الخليج من 1820 حتى 1971 م) لتقنين إدارة البلاد في حده الأدنى وذلك لتهيئة البلاد لكي تكون نقطة وصل في شبكة الملاحة والاتصالات والطيران والتجارة ما بين الهند من جهة والبلدان المطلة على حوض الخليج من جهة أخرى.
من هنا كان اهتمام المايجور دايلي وهو مؤسس نواة الدولة في البحرين العام 1923، ومن خلفوه من الوكلاء السياسيين الذين وقفوا خلف المستشار تشارلز بليغريف الذي عينه المايجور دايلي في 1926 واستمر بليغريف في منصبه حتى العام 1957 وأشرف على بناء الأجهزة ووضع التشريعات التي تؤمن الأمن، والخدمات والتجارة.
إن الإنجليز وهم يبنون أجهزة الدولة ويصدرون تشريعاتها، كانوا ينقلون البلاد من الحكم العشائري البدائي إلى الحكم البيروقراطي التسلطي. وعلى امتداد ثمانية وأربعين عاما من البناء التدريجي للدولة ( 1923 - 1971) ومأسسة أجهزة وتشريعات وبيروقراطية كانت عملية بناء الدولة تسير وفق منهجية واضحة اتبعت فصل الحكم عن التجارة، بمعنى أن من يمارس الحكم من العائلة الحاكمة أو من العوائل التجارية الأخرى فإنه يخرج من مهنة التجارة أيضا، وكان هناك تدريب احترافي لمسئولي الدولة، واعتمدت بريطانيا النظام المعمول به في حكومة ويستمنستر اللندنية، إذ أطلقت على الوزارات مسمى الإدارات (وهو الأمر المعمول به لحد الآن في بريطانيا) وأعطت أهمية قصوى للإدارة المالية، بحيث كان بليغريف يصدر موازنة سنوية للحكومة، ويصدر تقرير حساب ختامي للسنة التي سبقت، وأثناء وجوده في البحرين على مدى 31 عاما، أصدر ثلاثين موازنة وثلاثين تقريرا ختاميا، كان ينشرها بصورة علانية للجميع، وهو أمر مع الأسف لم يعد موجودا، وعندما توفّر في «برلمان 73» كانت مجتزأة ولفترة وجيزة، ثم اختفت الحسابات، وظهرت بشكلها الحالي الذي يشهد سجالات عقيمة داخل البرلمان من دون أن يفهم الناس أو الاقتصاديون واقع الحال من الناحية المالية، إذ إن ما لا تقوله بنود موازنة الحسابات الختامية أكثر مما تقوله.
لقد بدأ المايجور دايلي إصلاحات الإدارة الحديثة للدولة في 1 مايو/ أيار 1923م، واعتبر ذلك تجديدا وتطويرا لسلطة الحكم العائلي بما يتماشى مع متطلبات العصر ودور البحرين كمركز تجاري وخدمي في ذلك الوقت.
وقد عمدت إصلاحات الإدارة في عشرينيات القرن الماضي إلى إشراك السكان في انتخابات المجالس البلدية بدءا من 1926 (والمرأة انتخبت في الأربعينيات من القرن الماضي أيضا وكانت أول امرأة خليجية تدخل عملية الانتخابات)، وكان تشكيل التجار لغرفة التجارة عبر الانتخاب حدثا نوعيا، وكانت الأوقاف الجعفرية تتم عبر الانتخابات، وعموما كان للسكان والتجار صوت في بعض جوانب إدارة الدولة، وصل في قمتها العام 1956 عندما تم انتخاب مجلس للصحة ومجلس للتعليم (نصف معين ونصف منتخب) وذلك لتحديث سياسات هاتين الدائرتين المهمتين، كما تم الاعتراف رسميا في 1956 بتشكيل أول حزب سياسي على مستوى الخليج (هيئة الاتحاد الوطني)، قبل أن تعلن حالة الطوارئ في نهاية 1956 ويتم تعليق كل المجالس المنتخبة وإلغاء الاعتراف بالأحزاب السياسية.
إن بناء الدولة وأجهزتها وتشريعاتها لم يكن نابعا فقط من إرادة المواطنين أو السكان عموما أو لم تكن معبرة عن مصالحهم ومتطلباتهم بشكل كامل، ولكن كان الانجليز يبحثون عن بلد آمن ينطلقون منه في نشاطاتهم التجارية والسياسية، وكانت البحرين هي المؤهلة لذلك بعد إن كانت بريطانية تفكر في نقل إداراتها للخليج من بوشهر إلى مكان آخر، وكان على بريطانيا أن تهدئ الأوضاع وتخلق حالة من الاستقرار المصحوب بإدارة متطورة، ولذا كانت الإصلاحات ضرورية.
لكن بقيت مكانة السكان المحليين أقرب إلى الرعية منها إلى المواطنة، وكان توصيف ذلك في جوازات السفر «من رعايا حاكم البحرين وتوابعها». فإن كانت المواطنة مرتبطة بمجموعة من الحقوق المتأصلة والواجبات المترتبة على المواطنة، حقوق وواجبات مسلم بها وملازمة للمواطنة، فإن مفهوم الرعية يرتبط بما يمنحه الحاكم أو الحكم أو ليس حقا متأصلا، مقابل الولاء والخضوع للحاكم أو الحكم، ولذا فإن ما يناله الرعية يعتمد كثيرا على شخصية الحاكم.
كان يمكن للاستقلال، الذي تحقق في 14 أغسطس/ آب1971 من خلال إرادة شعبية لخيار دولة عربية مستقلة ورفض الادعاءات الإيرانية، من خلال بعثة تقصي الحقائق للأمم المتحدة برئاسة فيتوري جيوسباردي في مارس/ آذار 1970 أن يكون بداية لتحول حقيقي من الرعية إلى المواطنة، ولكن ورغم مرور أكثر من ثمانية وثلاثين عاما على الاستقلال، ورغم التطور الكبير في بنية الدولة وتشريعاتها واستنادها إلى دستور ومؤخرا ميثاقا وطنيا، إلا أن المواطنة المتساوية لم تتحقق.
يمكن القول إنه في جوهر فلسفة الحكم سواء في ظل الحماية البريطانية أو في عهد الاستقلال، فإنها تقوم على التمايز الكبير بين النخبة الحاكمة من ناحية وباقي فئات الشعب، بحيث يمكن القول تجاوزا إن أفراد النخبة الحاكمة هم المواطنون المتميزون وإن غالبية الشعب هم أقرب إلى الرعايا وفيما بينهما مواطنون بدرجات مواطنة متفاوتة.
وهكذا يتوجب علينا التمييز بين ما هو منصوص عليه في الدستور أو التشريعات أو السياسات المعلنة من خلال بيان الموازنة العامة أو حتى الخطاب الأميري ثم الملكي أمام المجلس الوطني بصيغتيه 1973 و2002، وبيانات مجلس الوزراء أو الوزراء وكبار المسئولين من ناحية، وبين ما استقر من عقيدة للحكم وسياسات فعلية للدولة، ومفاهيم مترسخة في أوساط الدولة والمجتمع، وبنية تراكمية للدولة، وعلاقة الدولة بالمجتمع حيث تتباين هاتين المنظومتين، بل وتفترقان كثيرا إلى حد التناقض فلو رجعنا إلى دستور 1973 فسنجد أن عددا من مواده تؤسس لمفهوم المواطنة، حيث تتردد كلمة المواطن والمواطنين، مع ما يربطهما من حقوق وواجبات وكلمة الشعب والذي هو مجموع المواطنين مع ما يرتبط بها من حقوق وواجبات، كما في الباب الثاني (المقومات الأساسية للمجتمع)، والباب الثالث (الحقوق والواجبات العامة)، وكيفية ممارسة هذه الحقوق والواجبات كما في الباب الرابع (السلطة)، لكن بعض القوانين التي صدرت لتنظيم هذه الحقوق قد حدّت كثيرا منها خلافا لما هو منصوص عليه في الدستور.
لكن صدور الدستور وقيام سلطة تشريعية منتخبة بأكثرية أعضائها، لم يكن القاعدة التي أستند إليها في إعادة بناء أجهزة الدولة أو تغيرا في عقيدتها والمفاهيم السائدة بما يعزز مفهوم المواطنة المتساوية، بل استمر بناء الدولة حثيثا مع متطلبات الاستقلال بذات العقيدة والمفاهيم القديمة وظل نظام الامتيازات والتمييز قائما بل ومتفاقما.
على أية حال فإن العمل بالدستور ولو قانونيا لم يستمر لأكثر من 18 شهرا، حيث جرى تعليق العمل بالمواد المتعلقة بالسلطة التشريعية، وخرق فاضح للضمانات والحقوق الواردة فيه للمواطنين، واستمر الحال عمليا حتى 2001 بعد الاستفتاء على الميثاق في 14 - 15 فبراير/ شباط 2001.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 2395 - الجمعة 27 مارس 2009م الموافق 30 ربيع الاول 1430هـ