أشم رائحة غريبة تنبعث من الجسد الصحافي عندنا في البحرين، متمثلة في «النقابة» تحت التأسيس والجمعية «الميتة إكلينيكيا» والتي تسعى للتحول إلى «نقابة» ولو كره الكارهون للهيمنة الرسمية. وهناك ثمة ضعف في الأداء النقابي والحقوقي ليس بسبب الخلافات والصراعات والتنافس بتبعاته السياسية والمهنية و«المصالحية» فحسب؛ بل يعود ذلك إلى غياب الوعي النقابي والافتقار إلى الخبرات أو تهميش هذه الخبرات إن وجدت، ومن ثم يعود إلى القيود على حرية العمل النقابي ذاته مترافقاً مع ترسانة القوانين المقيدة للحريات، ما جعل قيادة هذه الحركة التي لم تخض معركة واحدة في حياتها قط من أجل حقوق الصحافيين تتصدر للأسف الشديد، هذا العمل الجماعي والثقافي وتخرجه من مساره الطبيعي والذي عنوانه الأول: «الاستقلالية».
«النقابة» تحت التأسيس، انتخبت «أمانتها العامة»، و«الجمعية» ستنتخب مجلس إدارتها في العشرين من الشهر الجاري، وثمة حديث يدور في العلن ومن وراء الكواليس يشير إلى أن الحوارات بين «الميتة سريرياً» والأمانة العامة الجديدة بتركيبتها «الفانتاستك» ستتواصل برغم «تجربة» أكثر من سنتين تخللها مفهوم «حسن النوايا» وكلام الحق الذي يراد به باطل تحت شعار ساحر للقلوب والعقول معاً وهو: «من أجل توحيد الجسم الصحافي البحريني» ولم نخرج بنتائج طيبة بعد.
شاءت الظروف أن لا أكون من بين الحاضرين في اجتماع الجمعية العمومية لانتخابات «النقابة» تحت التأسيس، بعد قراءة إشارات متناقضة «للممحي والمكتوب» زاد منها الطين بلة، تأكيدات رئيس اللجنة التحضيرية السابق، والأمين العام الحالي للنقابة الزميل محمد فاضل وإصراره على مواصلة الحوار مع جمعية الصحافيين، وتبيّن لي أن في الأمر علة، أضف إلى ذلك تجاهل هذه الأخيرة بتعمد مقزز لا يحتمل وبمباركة رسمية لا تخفى على اللبيب، كل الاتفاقات والأعراف الأخلاقية وكل القوانين وتضرب عرض الحائط كل ما من شأنه أن يقرب وجهات النظر نحو تأسيس نقابة صحافية حرة مستقلة، بعيدةً عن الوصاية الرسمية، وتسعى إلى تحرير الصحافة من تدخلات الدولة.
الصحافي الذي يحترم نفسه لا ينبغي أن يدخل لعبة لا يفهمها، خصوصاً إذا كان يسعى لتأسيس كيان من المفترض أن يدافع عنه، لا أن يقوم أفراد من داخله للتآمر عليه ضمن لعبة محبوكة لا تتعدى «اتفاقا فوقيا»، نعرف مسبقاً كفته في صالح من، حسب المقولة الشهيرة: «من يملك المال يملك ثلثي القوة إذا لم يملك القوة كلها»! وباختصار، فإن ما تريده الجمعية المدعومة رسمياً هو الذي سيكون في إطار مقاساتها على خلفية «برمجة التوجيه والتحكم من بعد»، حتى لو تذرع أصحاب الرأي القائل في «النقابة» بأن «مقاييس العضوية» هي التي ستحسم الأمر لصالح الصحافيين في نهاية المطاف.
المسألة إذاً، ليست في ضعف الأداء النقابي، بل في فهم «المخفي»، وعدم السماح باستقلالية النقابة أو الجمعية من هيمنة الحكومة على أدائهما، فلدينا على سبيل المثال جمعية الصحافيين المعترف بها رسمياً (الطفل المدلّل لوزارة الإعلام)، لا تخرج من كونها منظمة «شبه سرية» تابعة للوزارة وتوابعها، وتأتمر بإمرتها ولا تخرج عن عباءتها، والدليل للأسف الشديد أن الجمعية لم تدافع عن صحافي بحريني تعرض لانتهاك في حقوقه قط. ونتذكر جيداً أن هذه الجمعية التي من المفترض أن تتقدم الصفوف للدفاع عن حرية الرأي والتعبير ورفض تقييد الحريات بحكم مهنيتها، وجدناها أول المباركين والمشيدين بصدور المرسوم بقانون () لسنة السيئ جداً الخاص بالطباعة والنشر، وقبل أن تدرسه أو تناقشه، في الوقت الذي ثار الجدل في مؤسسات المجتمع المدني السياسي والحقوقي بشأن هذا المرسوم بقانون وقدمت مرئياتها التي بيّنت تناقضه مع حرية الرأي والتعبير وعصر الإصلاح وتقييده للحريات بدل أن ينظمها. ووقفت هذه الجمعية أيضاً مع وزارة الإعلام بكل استفزاز سلوكي لأخلاق المهنة في ممارسة هذه الأخيرة العادات القديمة في توقيف الصحافيين بالهاتف من دون أمر قضائي، أو استخدام نفوذها لقطع أرزاق الصحافيين، أو منعهم من الكتابة أو المراسلة للصحافة العربية والأجنبية، ولم تتطوع بإثارة موضوعاتهم مع الإعلام الخارجي بالوزارة، كما حصل للكاتب الصحافي حافظ الشيخ والصحافية مها الصالحي وفاطمة الحجري، ورملة جواد وأحمد رضي وآخرين، وما خفي كان أعظم، ومن دون أن تحرك ساكناً. واستكثرت فوق ذلك، حتى السؤال عن أوضاعهم.
وبينما كانت المنظمات الحقوقية الأخرى في الداخل والخارج ترصد الانتهاكات والتراجعات لحرية الصحافة والتعبير في البحرين، كانت الجمعية وزعامتها في «أسماء مجلس إدارتها» تراقب الصحافيين البحرينيين الذين لا «يسمعون بأذن الحكومة ولا يرون بعينها ولا يمشون مشيتها»، وبدل الدفاع عنهم تحرض تقاريرهم عليهم لنيل ثقة المسئولين الكبار أصحاب أختام التوظيف والترقيات وما إلى ذلك من نفاق وتملق خارج نطاق أخلاق المهنة والأداء النقابي المفترض.
ولم لا، فالحكومة عندنا تهيمن على مفاصل العمل النقابي والصحافي والإعلامي، وكل شيء هنا مملوك للدولة من راديو إلى تلفزيون إلى وكالة الأنباء إلى جمعية للصحافيين، وربما «النقابة الموحدة» المقبلة أيضاً، ما دام جل الصحافيين يفكرون بعقلية الماضي ويعيشون هواجسه المخيفة التي تهدّدهم في لقمة العيش إن لم «يتكيفوا» أو «يوافقوا» السائد وتجلياته الكريهة، لا أن يسعوا إلى نشر مبدأ ثقافة حرية الرأي والتعبير والدفاع عنه عبر إصدار البيانات والتقارير بشأن الانتهاكات من دون اعتبار ذلك وسيلة بمفردها للوصول إلى الأهداف المنشودة، وإنما إحدى الآليات المهمة في تنمية الوعي وخلق رأي عام مؤيد لحرية الصحافة والصحافيين.
ان فضح هذه الانتهاكات ومرتكبيها من مهمات العمل النقابي، ما يشكل إحدى وسائل الضغط للقضاء عليها وعدم تكرارها، بالإضافة إلى أنه يتوجب العمل على عقد دورات تدريبية ومؤتمرات وندوات تعنى بشئون حرية التعبير.
وعليه، لن يستقيم الأمر إلا بتحرير الصحافة من تدخلات كائن من كان، وهو شعار المرحلة الحالي إذا ما أريد لاستقلالية العمل الصحافي والنقابي أن يأخذ مكانته المرموقة في مجتمع يفترض أن يكون ديمقراطياً حراً، إذ لا يمكن الحديث عن صحافة حرة ونقابة حرة من دون مجتمع حر، خالٍ من ترسانة القوانين المقيّدة لحرية الرأي والتعبير.
وتوحيد الجسم الصحافي بين «نقابة» و«جمعية» من هذا النوع والتي من المفترض أن تحمي الحريات نجدها تقيّد ما أباحه الانفتاح الديمقراطي وتجعل المسموح به ممنوعاً وبمزاجية المتنفذين الذين بيدهم سلطة القرارات الفوقية في التوحيد والتفرقة.
يبدو أن على الصحافيين أن يفكروا بشكل آخر للخروج من الأزمة النقابية بين الجمعية والنقابة اللتين من «تباشيرهما» لن يفضيا إلى شيء قد ينفع الصحافيين المحاربين من أجل تحريرهم واستقلاليتهم، بتأسيس كيان ثالث تحت مسمى «مركز حقوق الصحافي» مثلاً يشارك فيه نخبة من الصحافيين المرموقين وحقوقيين مهتمين بحرية الرأي والتعبير والحريات العامة وفي القلب حرية الصحافة. وأعتقد أن الوقت ملائم جداً في هذه المرحلة لممارسة الضغط على الجهات الرسمية، خصوصاً أن حركة حقوق الإنسان بدأت تهتم بدور النقابات المستقلة وبالإعلام الحر وتأثيره على الرأي العام وتعدد وسائله من مقروء ومسموع ومرئي. وأصبحت تتبلور حركة ليس على المستوى العربي فحسب، بل الدولي أيضاً من أجل الاهتمام بالإعلام والحريات العامة، وينبغي للمهتمين الاستفادة من هذا المد التحرري والخروج بنتائج مرضية لمجتمع عصري يقبل بالرأي والرأي الآخر، أو هكذا يراد له من دون تهويش هامشي لفرض الهيمنة والوصاية.
كاتب بحريني
العدد 857 - الأحد 09 يناير 2005م الموافق 28 ذي القعدة 1425هـ