العدد 2395 - الجمعة 27 مارس 2009م الموافق 30 ربيع الاول 1430هـ

قمة الدوحة والانقلاب الأميركي الصغير

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد يومين تبدأ أعمال القمة العربية في الدوحة. وجدول أعمال هذه القمة بالغة الأهمية لكونها تحاول أن تعيد هيكلة الاستراتيجية العربية بناء على تجربة الانقسام الذي مرت به المنطقة في السنوات الست الماضية وبناء على خطوات التصالح التي بدأت إرهاصاتها السياسية في قمة الكويت الاقتصادية. وأهمية قمة الدوحة ليست في مراجعة الملفات التي عصفت بها الرياح الأميركية بعد محاصرة ياسر عرفات في رام الله واجتياح العراق وإنما أيضا في محاولة إعادة تأسيس منهجية مغايرة في طريقة التعامل مع المتغيرات الدولية والإقليمية التي يرجح أن تجتاح المنطقة خلال السنة الجارية.

هناك سنة مهمة تنتظر منظومة العلاقات الإقليمية وهي تشكل حقل اختبار لمدى قدرة جامعة الدول العربية على التصدي والصمود في مواجهة متغيرات باردة بعد موجة من العواصف الساخنة. وبهذا المعنى الظرفي تعتبر قمة الدوحة مفصلية لأنها تشكل محطة انتقالية بين فترة ساخنة وأخرى باردة. والبرودة أحيانا لا تقل خطورة عن السخونة لأنها أيضا تتشكل في داخلها منعطفات ومطبات قد تزعزع الاستقرار أو تثير تحديات أو تطرح مشكلات ناجمة أصلا عن اختلاف الرؤيا في التعامل مع المتطلبات الدولية والطموحات الإقليمية.

هناك متغيرات باردة سيشهدها العالم في السنوات المقبلة وهي تتصل ابتداء بذاك المتحول السياسي الذي طرأ على منهج إدارة واشنطن لمنظومة العلاقات الدولية. فأميركا في عهد الرئيس باراك أوباما مختلفة في السلوك من دون أن يعني الأمر أنها تخلت عن مصالحها الكبرى واستراتيجية الدفاع عن مواقعها ونفوذها ودورها.

اختلاف السلوك الأميركي يمكن ملاحظته في مختلف النقاط العاجلة والطارئة. فالرئيس أوباما لجأ إلى معالجة أزمة النقد (السيولة المالية) بمنظار اقتصادي حمائي ما يعني أنه تخلى عن الكثير من أوهام آليات السوق ونظريات الرأسمالية المطلقة (المتوحشة). ولجوء أوباما إلى التدخل في مسار قوانين السوق يعني أنه أخذ يعيد النظر بالنموذج الأميركي الذي دخل منطق التهور منذ العام 1990.

تعامل أوباما مع أزمة النقد من وجهة نظر حمائية يعطي فكرة عن رزمة من الملفات الأخرى. فأميركا الآن أخذت تتجه نحو موادعة روسيا الاتحادية في أوروبا الشرقية والقوقاز وبحر قزوين وآسيا الوسطى وصولا إلى دعوتها للمشاركة في حل أزمة أفغانستان. وأميركا أيضا خطت الخطوة الأولى باتجاه حسم خيار الانسحاب من العراق وفق جدول زمني ينتهي في العام 2011. والانسحاب الهادئ والمتدرج يقتضي التفاهم مع دول الجوار ومساكنة النفوذ الإيراني في محافظات جنوب العراق. والانسحاب العسكري يعني إعادة الانتشار السياسي والتموضع في بلاد الرافدين لحماية المصالح والنفوذ ما يرجح احتمال نشوء فراغات أمنية قد تفتح الباب أمام نمو تجاذبات أهلية بين الأطياف المذهبية التي تمركزت جغرافيا في الأقاليم والمحافظات.

أفغانستان تبدو حتى الآن الاستثناء الوحيد من القاعدة الأميركية. فأوباما الذي اختار الحمائية في الداخل (أزمة النقد) والموادعة مع روسيا والتساكن مع النفوذ الإيراني في العراق وربما الخليج يتجه نحو الانزلاق المؤقت في الدائرة الأفغانية - الباكستانية بذريعة ملاحقة خلايا الإرهاب وتطويقها ميدانيا لمنع انتشارها.

الانزلاق المؤقت في الدائرة الأفغانية - الباكستانية قد تكون بداية انجرار نحو مواجهة زئبقية لا يعرف متى تنتهي. وربما أيضا قد تكون نهاية مرحلة للبدء في التفاوض مع طالبان (البشتون) حتى يتم الانسحاب (التموضع) في أقرب فرصة وبالتوازي مع ساحة العراق.


القاعدة والاستثناء

إلى الاستثناء الأفغاني - الباكستاني هناك أيضا الاستثناء الإسرائيلي ومنهج التعامل الأميركي التقليدي مع ملف ساخن مضت عليه ستة عقود من الزمن. حتى الآن يبدو السلوك الأميركي في عهد أوباما مختلف جزئيا عن أدوات التعاطي التي لجأ إليها سلفه جورج بوش. ولكن السلوك لايزال يتسم بالغموض ويحتاج إلى فترة زمنية لاستكشاف معالمه وزواياه.

النظرة السريعة من بعيد تشي بوجود قرار أميركي بزيادة جرعة التدخل والإسراع في تفكيك ألغام تعترض طريق الحل الدبلوماسي للملف الفلسطيني إلا أن القرار المفترض وجوده يحتاج إلى فترة نقاهة للتخلص من تلك الأعراض التي أصيبت بها استراتيجية واشنطن خلال السنوات الثماني الماضية. ومشكلة أوباما الآن أنه بات يواجه معضلة إسرائيلية بسبب نمو كتلة صهيونية متطرفة ايديولوجيا تعمل على تعطيل التوافقات والتفاهمات التي توصلت إليها تل أبيب مع السلطة الفلسطينية. وهذه المعضلة الإسرائيلية لا يمكن معالجتها عربيا ودوليا من دون تدخل أميركي يضغط مباشرة على الحكومة الائتلافية التي يستعد بنيامين نتنياهو لإعلانها رسميا في الأسبوع الجاري. فهل جاء الوقت أم أن أوباما سيترك المسألة تتهاوى حتى تستقر على قعر جديد ليبدأ متأخرا في التعاطي مع الملف؟ الجواب الأميركي على المسألة ومستجداتها الميدانية غير واضح حتى لو ظهرت تصريحات من جانب أوباما تكشف عن امتعاض أو عدم ارتياح من توجهات الحكومة الإسرائيلية المنتظرة.

هناك إذا في المجموع العام متغيرات أميركية. وحين تبدأ قمة الهرم بالتحول دوليّا من السخونة إلى البرودة فمعنى ذلك أن المنطقة ستواجه إقليميا انعطافات ليست بالضرورة حادة كما كان الحال أيام حكم «تيار المحافظين الجدد» ولكنها لن تكون سهلة كما يتوقع بعض المبالغين في دمشق وطهران ودعاة ايديولوجيات «الانتصارات الوهمية».

بين الأوهام والحقائق هناك مساحات جغرافية ومسافات زمنية تتحكم بها آليات سياسية تقوم على معادلة موازين القوى وإطارات المصالح وخريطة طريق لترتيب المواقع والنفوذ والأدوار. فالاستراتيجية الأميركية تغيرت في السلوك وانتقلت من الهجوم إلى الدفاع ومن التقويض (الفوضى البناءة والضربات الاستباقية) إلى الحمائية والموادعة والتساكن ولكن الاستراتيجية في النهاية تعتمد على ثوابت يعاد إنتاجها ظرفيا لتتناسب مع مدارات المصلحة العليا للدولة... وهذا يعني أنها لن تتغير كليا إلا إذا قرر أوباما الانقلاب على منهجية تديرها مؤسسات صناعية ومالية ومراكز أبحاث تخطط البرامج والتصورات.

الانقلاب الأميركي الكبير لن يقع وإنما احتمال حصول متغيرات جزئية في السلوك (انقلاب صغير) مسألة واردة وهي قد بدأت منذ تسلم أوباما إدارة البيت الأبيض. ومثل هذا الانقلاب الصغير ليس بسيطا في المعادلة الدولية وما يتركه من متحولات قد تؤثر في آليات إنتاج السياسة في «الشرق الأوسط الكبير». وهذا النوع من المتغير الأميركي - الدولي سيطلق في حال اشتدت قوته موجات ارتدادية باردة ولكنها مهمة على مستوى التحالفات الإقليمية في المنطقة العربية ومحيطها الجغرافي الجواري.

هناك إذا مهمات كثيرة (ساخنة أو باردة) تواجه جدول أعمال القمة العربية التي ستعقد بعد يومين في الدوحة. والملفات التي ستفتح لابد أن تكون كبيرة وحساسة حتى تستطيع جامعة الدول العربية تعزيز قدراتها على الصمود أمام المتغيرات والتصدي لمجموعة متحولات تتصل ابتداء بالاستراتيجية الأميركية ولا تنتهي بإعادة تعريف وظيفة منظومة العلاقات العربية ودور مظلة الأمن القومية في حماية التوازن الإقليمي في «الشرق الأوسط».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2395 - الجمعة 27 مارس 2009م الموافق 30 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً