"لست قوميا أو بعثيا درس في مصر أو في بلاد الشام حتى اناصر دعوات العراق "العروبة" ضد الجارة المسلمة الشيعية ايران، ولا "اصوليا اسلاميا" فئوي الهوى حتى اتحمس للاصطفاف إلى جانب ايران الايديولوجية النزعة والمنهج. بل انا مواطن خليجي انتمي إلى هذه الأرض العمانية "المتوسطية" الهوى والهوية ارى في العراق وايران بمثابة عيني الخليج التي ينبغي لنا نحن هنا في مجلس التعاون النظر بهما إلى العالم بكل واقعية ولا يجوز لنا مطلقا ان نفقأ احداهما لصالح الاخرى أو على حساب الاخرى".
هذا ما قاله لي رجل عماني كبير من رجالات مطبخ صناعة القرار السلطاني العماني في مطلع تسعينات القرن الماضي وهو يشرح لي السياسة الخارجية للسلطنة التي تميزت وتمايزت عن سائر شقيقاتها الخليجيات الخمس الاخريات سواء بخصوص الموقف من الحرب العراقية على ايران في مطلع الثمانينات أو حرب غزو الكويت واجتياحها على يد نظام صدام حسين المخلوع أو حرب اخراج القوات العراقية منها على يد الاميركيين أو الحرب الاميركية - البريطانية الاخيرة على العراق.
لم تأخذهم "العصبية" القومية بعيدا حتى يجحفوا بالقول والفعل مع جيرانهم فيصنفوا في خانة "الافراطيين" فيضطروا لتبرير كل افعال ابن جلدتهم ثم يقعوا في شبهة "الساكت عن الحق شيطان اخرس"! كذلك لم تأخدهم "الحماسة" الثورية الايديولوجية لجارتهم التي يشعرون بدين عميق تجاهها لنجدتها اياهم في زمن الثورة "الشيوعية" الظفارية فيقفوا معها باعتبارها المظلومة في تلك المعادلة المجحفة حتى لا يظهروا وقد صنفوا في خانة "المفرطين" بالبعد القومي "والعربي" للأمة التي ينتمون اليها فيصبحوا وكأنهم قد وقعوا في شبهة "الخيانة القومية"!
اعرف ان ذلك لم يكن مرضيا للعراق كما لم يكن مرضيا لايران ايضا، لكنهم اي العمانيون كانوا يفكرون بالدرجة الأولى بمصالحهم الوطنية العليا أولا وبالابعاد الاستراتيجية ثاقبة النظر لرؤيتهم تلك ثانيا، وهو تقدير للموقف قد يكون في حينه ليس هو المطلوب بالتمام والكمال وكما يجب ان يكون لدى البعض فنحن هنا أو هناك لكن القدر المتيقن منه انه كان الاكثر ملامسة للواقع والأقل ضررا لعمان ودول مجلس التعاون وللعراق وايران من غيره من المواقف التي "تحمست" أو "انغمست" أو "طحنت" في حروب اقليمية ذات طابع عبثي لم تخدم سوى اطماع قوى الهيمنة والسيطرة على ثروات ومقدرات شعوب ودول الاقليم الغنية بالنفط والغاز والطاقة البشرية التي لا تعوض بسهولة كما ثبت فيما بعد. والتي تأتي الحوادث الراهنة لتثبت مدى "حكمية" ذلك الموقف العماني وتوازنه ومدى "افراطية" سواه.
اردت من هذه المقدمة الانطلاق لمناقشة الموقف العام لدول المعادلة الاقليمية الاهم تجاه كل من "المسألة العراقية" وايران وادخل مباشرة في صلب الموضوع لاقول مضيفا على "حكمة" ذلك العماني بالقول: كما ان العراق وايران هما عين دول مجلس التعاون التي من خلالها ينظرون إلى العالم القاري شمالا فانهما قد يكونان الجناحين الواقعيين اللذين من دونهما قد لا تتوافر مطلقا فرص "الطيران" الحقيقي والواقعي لهذا التكتل الخليجي الغني مهما نما وعلا أو ارتقى في العلم والمال والتكنولوجيا، وقولي هذا ليس من باب الشعر أو النثر الجميل أو الامنيات والآمال وان كانت ليست بمحرمة أو عيبا على الشباب كما يقول المثل الايراني الشائع، لكن اقولها من باب الخبرة والاطلاع والتجربة الطويلة مع هذا الملف الشائك المتعدد الاوجه والاخاديد والهموم والاهتمامات والقنوات والمستويات، واليكم بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر في اطار الاسئلة الآتية:
أولا: الم يكن بالامكان احتضان الثورة و"الدولة" الايرانية الوليدة وتحمل ارتجاجاتها "الثورية" الداخلية بالاساس واحتسابها رقما يضاف إلى حسابات العرب وهي التي اعلنت مقاطعة "الغرب" الاستعماري المستبد الذي حاول استغلالها لعقود ضد جيرانها وبمثابة "شرطي" كما هو معروف فيما قرر قادة الجمهورية الوليدة القطع مع ذلك "السيد" وإعلان "التوأمة" مع فلسطين قضية العرب المركزية والمسلمين؟
ثانيا: الم يكن بالامكان التقليل إن لم يكن الوقف الكامل ممكنا من غلواء العصابة البعثية "الصدامية" وعدم مسايرة تحريضه الحربي المستمر ضد هذه الدولة والثورة الناشئتين حتى نجنب المنطقة الحروب البعثية المتتالية في الوقت الذي كنا فيه أحوج ما نكون إلى البناء والتنمية الشاملة للأرض والانسان؟
ثالثا: الم يكن ممكنا احتضان قوى "التغيير" والمعارضة العراقية باطيافها المختلفة وما مثلت من مكونات شعبية حقيقية مقموعة بل "مطحونة" على كل المستويات والصور التي يمكن تصورها، مبكرا وقبل ان يأتي "الطوفان" من الخارج فيطيح ليس فقط بالطاغية الذي ابتلينا به، بل وبكل ما نملك من مقدرات، في الوقت الذي لانزال فيه نغرق في غيبوبتنا "القومية" مرة و"الايديولوجية" أخرى ناسين أو متناسين ان ما ابتلينا به ليس من آثار سومر وبابل التي "وقعت" علينا من السماء بل هو من صنع سياساتنا الخاطئة وان "الطوفان" القادم من الخارج ما كان بامكانه ان يطيح بما تبقى من ممانعات ومقاومات لدى البعض من ابناء جلدتنا لولا ان اخذتنا العزة بالاثم، اليس كذلك؟!
اطرح هذه الاسئلة المركزية الثلاثة على نخبنا العربية والاسلامية وانا اعرف جيدا بان لها أو عليها الكثير مما يمكن ان يقال وقد لا تسع لها مجلدات، ولكن ألم يئن الاوان لنستعبر مما جرى ونعيد النظر جذريا ببعض المقولات الجزمية وذات القوالب الجاهزة بشأن بعضنا بعضا وبشأن بعض مكونات كياناتنا السياسية والوطنية والقومية والايديولوجية التي ننتمي إليها؟اعرف ايضا أن الوضع بالنسبة إليه يبدو ملتبسا جدا في العراق كما في ايران وربما في اماكن اخرى ايضا بسبب تسارع التحولات وتداخلها وتشابكها بشكل يثير المئات من التساؤلات الاخرى. ولكن الم يحن وقت المراجعة النقدية والمكاشفة والمصارحة والاعتراف بالفضل لاصحاب الفضل وان كان حجمهم الجغرافي أو ثقلهم السكاني لا يغمر شاشات الفضائيات وصوتهم لا يجاري صخب الاكثرية؟! أليس هذا فنا يجب ان نتعلمه؟
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 856 - السبت 08 يناير 2005م الموافق 27 ذي القعدة 1425هـ