ليس سرا القول إن المرشح محمود عباس "أبومازن" هو الفائز في انتخابات الرئاسة الفلسطينية التي تعقد اليوم. فمنذ رحيل الختيار ياسر عرفات انصبت كل جداول المياه في طاحونة عباس. فالولايات المتحدة دعمت ترشيحه، و"إسرائيل" أبدت ارتياحها وأظهرت ميلها نحو بعض الليونة، والدول العربية فضلت الصمت، والسكوت يعكس أحيانا موافقة ضمنية. حتى حركة "فتح" التي بدأت مترددة ثم داعمة ثم مترددة ثم داعمة حسمت موقفها بتأييد عباس مرشحا وحيدا للحركة بعد أن نجحت في تجاوز الأسير مروان البرغوثي المعتقل في سجن إسرائيلي لمدة عقوبتها لا تقل عن مئة سنة.
كل الرياح جرت كما تشتهي سفن عباس إلى درجة تحول إلى قائد شعبي يستقبل كالأبطال في المدن والقرى الفلسطينية. ويحمل أحيانا على الأكتاف ليطلق تصريحات تضرب يمنة ويسرة. فمرة يهاجم "عسكرة" الانتفاضة ومرة يهاجم "العدو الصهيوني". ومرة يعتذر عن ذاك الوصف معتبرا أن "العدو الصهيوني" زلة لسان. ومرة يؤكد ثوابت عرفات وتمسكه بها. ومرة يتردد في زيارة القدس تجنبا لحماية حرس "العدو الصهيوني".
هذا الضرب بين اليمين واليسار أو بين العدو "زلة لسان" والانتفاضة "العسكرة" وبين ثوابت عرفات ونواقص زياراته التفقدية "القدس مثالا" أثار البلبلة في مختلف الجهات. بعض "إسرائيل" أبدى مخاوفه من إعلان عباس تمسكه بثوابت عرفات، وبعضها الآخر اعتبر أن تلك التصريحات مجرد بالونات حرارية تطلق بمناسبة المزايدات الانتخابية. كذلك بعض فلسطين ارتاح لإعلان عباس تمسكه بالثوابت، وبعضها الآخر انزعج من مسألة "العسكرة" وتحفظ على مدلولاتها السياسية البعيدة المدى.
المهم الآن أن عباس عرف كيف تلعب اللعبة. ونجح في السير بين النقاط إلى درجة أنه أرضى معظم الشعب الفلسطيني الذي يرجح أن يعطيه ثقته بنسبة يقال إنها لن تقل عن 60 في المئة.
عباس إذا هو أول رئيس فلسطيني بعد رحيل الختيار. والسؤال ماذا بعد الانتخابات؟ وما القاموس الذي سيستخدمه عباس لشرح ذاك الغموض في تصريحاته المتضاربة يمنة ويسرة؟
مثلا، ماذا يعني برفض "عسكرة" الانتفاضة؟ هل تعني مثلا أنه سيلجأ إلى القوة لمنع العمليات العسكرية ضد "إسرائيل"؟ وهل مثلا أنه سيدخل في مواجهة أهلية مع "حماس" و"الجهاد" ويبدأ معركة ضد 40 في المئة من الشعب الفلسطيني لمنع ما يسميه "العسكرة".
هذا من الجانب الفلسطيني. ومن الجانب الإسرائيلي لاشك أن هناك مجموعة استفسارات تتعلق بمفهومه الخاص لثوابت عرفات. فمن ثوابت عرفات مثلا عدم الانجرار في حروب داخلية "أهلية" وتثبيت الجبهة الفلسطينية على قواعد مشتركة توفق بين البندقية وغصن الزيتون. كذلك من ثوابته عدم تقديم الحقوق الفلسطينية على طبق من فضة مقابل وعود هوائية لا أساس واقعيا لها ولا تستند إلى شرعية مضمونة عربيا ودوليا. هذه ثوابت عرفات، فأين ثوابت عباس؟
مسألة الثوابت مهمة، ولكنها غامضة في برنامج عباس الانتخابي. والغموض يمكن ملاحظته من الجهتين الفلسطينية والإسرائيلية. فالجانب الفلسطيني لا يعرف حتى الآن حدود اللعبة التي يتحرك عباس ضمنها. وهل يمكن مثلا أن تعطيه "إسرائيل" ما أحجمت عنه في عهد عرفات؟ وهل المسألة شخصية وتتركز في كره شارون لعرفات. وهل رحيل عرفات يعني رحيل المشكلة الفلسطينية أم زوال الحاجز النفسي الذي وضعه شارون وتذرع به للتهرب من كل الالتزامات الإسرائيلية السابقة؟
الأجوبة عن هذه الأسئلة موجودة عند الرئيس المنتخب عباس. وهي أجوبة لا تحتمل التأجيل أو التأويل وأيضا لا تتضمن أكثر من معنى. فهل برأي عباس أن المشكلة انتهت برحيل العقبة "عرفات"؟ واستتباعا هل برأيه أن "إسرائيل" التي توصلت إلى الاتفاق على حكومة برأسين "الليكود والعمل" ستبدأ بتطبيق القرارات الدولية وتأخذ بتنفيذ ما وقعته من اتفاقات ثنائية؟
هذا الاستتباع يفتح الباب على أسئلة من نوع: هل عرفات منع "إسرائيل" من الانسحاب من الأراضي المحتلة، ورفض تفكيك مستوطناتها وعطل إمكانات تطور السلطة إلى دولة فلسطينية عاصمتها القدس... إلى آخر ما نعرفه من حقوق نصت عليها المواثيق والمعاهدات والقرارات الدولية... أم العكس هو الصحيح؟
غدا ستعلن نتائج الانتخابات وعباس هو الرئيس الفلسطيني الجديد. هذا هو الجانب السهل من المعركة، أما الجانب الصعب منها فهو يتعلق بتوضيح الغامض من تصريحاته، وماذا يقصد بها، وكيف سيدير اللعبة، ضد الشعب الفلسطيني أم ضد "إسرائيل"؟ هناك بعض الوقت لنتعرف على وجهة سير عباس وثوابته
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 856 - السبت 08 يناير 2005م الموافق 27 ذي القعدة 1425هـ