ما المقياس الأهم الذي نحتكم اليه لكي نقرر ما اذا كنا بصدد حرية تعبير أم انتهاك؟ كل شيء ما عدا "الذات الملكية" و"الاديان"، أليس هذا ما يقوله المرسوم بقانون رقم 47 للصحافة والنشر والمطبوعات الذي أشبعناه نقدا ولا نرى فيه سوى محاولة للارتداد على مكسبنا الأهم؟ ماذا يقول الدستور وماذا يقول الميثاق؟ من الواضح أننا ننسى كثيرا وفي كل مرة يسعى احدهم إلى تكميم الأفواه لابد له - ويا للمفارقة - من إيراد الدستور والميثاق.
آخر الفصول اليوم هو مسرحية ولا شيء آخر والقصة عادة ما تبدأ بخبر صغير. خبر يقول إن ثمة اعتراضا على اسم مسرحية اختار مؤلفوها اسما لها هو "حب في الفلوجة". أما الاعتراض الآن فهو على إيراد اسم الفلوجة لا أكثر ولا أقل. وفي سياق الاعتراض الآن على الاسم يراد أن يتم استبداله مثلا إلى: "حب في العراق". أي يمكن وضع أي اسم إلا "الفلوجة". وثمة تهديد مبطن أيضا: تأليب أعضاء مجلس النواب ضد عمل مسرحي يحمل اسم "حب في الفلوجة".
بأي مقياس وبأي معيار وأية مرجعية يعطي السادة النواب أنفسهم الحق في التدخل فيما يعرض من مسرحيات للناس؟ أي حق وبأي مقياس يمكن أن نحتكم إليه في هذا الجدل العقيم من أصله؟ المسرح، الفن عموما أحد الوسائل المهمة لحرية التعبير، لكن الحجة في هذا الجدل تبقى متهافتة إلى حد لا يمكن معه أن نقول إننا بصدد نقاش موضوعي لأن الاعتراض كما أشيع - وأرجو أن أكون مخطئا - هو على الاسم فقط. الفلوجة أصبحت اسما محرما أو محاطا بشيء من الهالة والقدسية تستدعي من النواب التدخل لدى مسرحيين لتغيير اسم مسرحية.
أما القائمون على المسرحية فهم مهذبون ولطفاء إلى أقصى الحدود. إلى الحدود التي يخافون فيها من الدفاع عن حقهم في التعبير ويسعون إلى التماس شيء من الرضا في نفوس المعترضين من السادة النواب ليقولوا في النهاية إن النواب المعترضين لم يقرأوا نص المسرحية ولم يعرفوا مضمونها قبل أن يحكموا عليها.
لكي يستقيم الجدل ويكتسب وجاهة وموضوعية، لنفترض أن المسرحية تحمل وجهة نظر مغايرة بل ومناقضة لوجهة نظر السادة النواب المعترضين، فهل يعطيهم هذا الاختلاف الحق في التدخل والتلويح بوقف المسرحية أو تأليب مجلس النواب ضدها؟
حسنا، أعطونا تفسيرا آخر لحرية التعبير واحترام الاختلاف في الرأي غير أن نتقبل وجهات النظر المغايرة لوجهات نظرنا ولربما على النقيض منها. أعطونا تفسيرا لمعنى احترام الرأي الآخر ما لم يكن ذلك هو أن تتاح الفرصة لكل صاحب رأي أن يعبر عن رأيه من دون تهديد ومن دون خوف ومن دون تخوين؟
لكن هذا النقاش كله لا معنى له، والاعتراض ليس سوى على الاسم، وثمة اقتراح لطيف بأن يتم تغيير اسم المسرحية من "حب في الفلوجة" إلى "حب في العراق" لأن الفلوجة لا يمكن أن ترد على أي لسان إلا بنغمة واحدة فقط. خمسة وعشرون مليون عراقي منقسمون على الفلوجة، لكننا، وكجاري عادتنا ملكيون أكثر من الملك. وقبل شهور شهدنا استعراضا مجانيا في الطائفية حبس أنفاس الناس بأسرها بشأن بيان لا يغني ولا يسمن من جوع بشأن الفلوجة، لكن على رغم هذا كله فالمحاولة مستمرة وبمثابرة وعزم لا يلين لمواصلة الاستعراض نفسه، لكن هذه المرة لكي ينتهك مكسبنا الأهم: حرية التعبير. ثمة مكابرة مستمرة هي أن وجهة نظر واحدة يجب أن تسود كلما تعلق الأمر بالفلوجة وبالعراق وليس هناك فرق بين أن نعلن وجهة نظرنا وبين أن نفرض وجهة النظر هذه على أضعف ضيوف مرحلة الإصلاح والشفافية: الفنانين، بل وعلى الناس أجمعين.
هل تعتقدون أن الاعتراض على اسم المسرحية يتعلق بمضمونها مثلا؟ ما إذا كانت تسيء إلى الفلوجة من وجهة نظر ما أم العكس؟ كلا النقاش لا يدور حول هذا أبدا. لكن عليكم أن تنتبهوا إلى أخطر ما في الأمر كله. لو افترضنا أن المسرحية تحمل وجهات نظر خاصة بأصحابها لا تتفق مع وجهة نظرنا، فهل يعطينا هذا الحق سواء لنائب أو لوزير أو لأي منا أن يلوح بالتهديد حيال المسرحية؟
الآن أسألكم: أعطوني تفسيرا آخر غير هذا للدكتاتورية والضيق بالرأي الآخر؟ أكرر السؤال: أي معنى سيبقى لاحترام الرأي الآخر وحرية التعبير إذا ما سارعنا دوما لإشهار سيف التهديد لأية وجهة نظر مخالفة لنا؟
هل يحق للنواب أو الوزراء على حد سواء أن يتدخلوا في مضامين المسرحيات وأسمائها؟ أو مضامين الروايات والنتاجات الأدبية والفنية؟ ألا يبقى من اعتراض على مسرحية سوى اسمها؟ بأي حق نتدخل؟ وبأي حق نطلب من القائمين على المسرحية أن يغيروا اسمها؟ وبأي حق نقترح أسماء عليهم؟ أي حق نملكه لكي نسمع الناس وجهات نظرنا ليل نهار وأن نطلق من النعوت والأوصاف والتهم على الآخرين وعلى كل ما لا يعجبنا وأن نحرم الفنانين وغيرهم من الناس وننكر عليهم حقهم في التعبير عن وجهة نظرهم؟ بأي حق وما هي المرجعية؟
كل ما يستطيع أي نائب أو أي شخص من الناس هو أن يشتري التذكرة ويشاهد المسرحية ويعلق فيما بعد بوجهة نظره أيا كانت، لكن في حدود اللياقة واحترام حق الآخرين في التعبير عن رأيهم لا أكثر ولا أقل ومن دون هذا الضجيج الذي يشعرنا دوما أن مكسبنا الوحيد أي حرية التعبير مهدد على الدوام
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 855 - الجمعة 07 يناير 2005م الموافق 26 ذي القعدة 1425هـ