لاتزال الإدارة الأميركية - بكل مسئولياتها وأصواتها الإعلامية - تؤكد في ضغطها على العالم مواجهة ما تسميه معاداة السامية، في تفسيرها لها بأنها تمثل كل نقد للصهيونية ورفض للاعتراف بدولة "إسرائيل"، ولكل ما يقوم به اليهود في كيانهم من المجازر الوحشية في قتل المدنيين وذبح الأطفال - كما حدث أخيرا في غزة - وتدمير الواقع الفلسطيني كله، لأن هذه الإدارة تخطط لتبقى حليفتها "إسرائيل" فوق مستوى النقد والإدانة في العالم كله، لأنها تملك الحرية في العبث بكل قرارات الأمم المتحدة وكل حقوق الإنسان، وتحريك الفتن والمشكلات في أكثر من موقع، إلى جانب أميركا التي تخطط معها في احتلالاتها ومخابراتها ومشاركتها لكل أوضاعها الاستكبارية.
وهكذا، لاحظنا كيف أدخلت المقاومة الفلسطينية في الانتفاضة في دائرة ما تسميه الحرب على الإرهاب واعتبار فصائلها منظمات إرهابية، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أنها تتحرك في عملية رد فعل للاحتلال الصهيوني لا من فعل ابتدائي عدواني لليهود، حتى أن الإدارة الأميركية منعت كل تفاوض سياسي مع الفلسطينيين إلا على أساس الخضوع للشروط الصهيونية في تفكيك الانتفاضة وتدمير بنيتها التحتية ومصادرة أسلحتها، مع إعطاء الحرية لليهود في اغتيال رجالاتها وقتل مدنييها من دون أي إنكار لما يقومون به من أعمال وحشية مضادة للإنسانية وللسامية العربية.
وهذا ما نلاحظه في التجميد السياسي للمفاوضات السلمية التي حاصرتها أمام جدار الرفض السياسي لمصلحة "إسرائيل" التي احتجت على أبي مازن لأنه تحدث - في احتجاجه على مذبحة الأطفال - عن "العدو الصهيوني"، كأنها تريد منه أن يتحدث عن "الجزارين الأصدقاء"، في الوقت الذي سمع فيه الجميع من هذا الزعيم الفلسطيني الصوت العالي في رفض بقاء الانتفاضة بالوسائل العسكرية، والتوجه إلى المفاوضات السياسية التي ترفضها "إسرائيل" إلا على شروطها في رفض حق العودة ومسألة القدس وتفكيك المستوطنات، وبقاء سيطرتها على كل مواقع الرفض الفلسطيني بكل أساليب الاغتيال، إلى غير ذلك مما يفقد الشعب الفلسطيني أكثر أهدافه، لتبقى فلسطين دولة مقطعة الأوصال، خاضعة للنفوذ الصهيوني بأدنى من مشروع الحكم الذاتي المحلي، ولتتحرك في متاهات المستقبل الذي لا حدود له في نهاية مشروع الدولة.
إن المرحلة التي تواجه الواقع الفلسطيني لا تتمحور حول فلسطين فحسب، بل تمتد إلى المنطقة كلها التي تتحرك في نطاق التحالف الأميركي - الإسرائيلي الذي يعمل من أجل الضغط الشامل على الواقع العربي الذي سقط تحت تأثير هذا التحالف، والإسلامي الذي اهتز أكثره في زلزال الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية.
وهذا ما نلاحظ بعضه في الضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية المتحركة في القرارات الأميركية - على صعيد الكونغرس الأميركي ورجال الإدارة - على سورية ولبنان، ولاسيما في القرار 1559 الذي يراد له - في خلفياته الواقعية - أن يمثل حركة للغط على سورية بما يتعلق بالاحتلال الأميركي للعراق، ما اعتبرت المسألة اللبنانية فيه مجرد ورقة ضغط على سورية مع بعض التهاويل السياسية التي قد يراد منها خلق بعض المخاوف في الوضع الداخلي اللبناني، الذي قد يحول الواقع السياسي إلى ما يشبه الملهاة الاهتزازية، تماما كما هي الترددات الناتجة عن أصداء الزلازل.
وإذا كنا نتصور أن هناك أكثر من خطة وأكثر من فرصة لدراسة الأوضاع السورية - اللبنانية، لإيجاد حال من التوازن في العلاقات بين الدولتين بملاحقة كل نقاط الضعف الكامنة في الواقع، ولمنع القوى المضادة من استغلالها في إثارة المشكلات وإفساح المجال للذين يصطادون في الماء العكر، فإننا نعتقد أن من الضروري البدء في ذلك بعيدا عن حالات الضغط، لمواجهة المتغيرات الدولية في العالم والمنطقة التي هي بحاجة دائمة إلى التغيير في الواقع من حيث الوسائل والمفردات السياسية والأمنية، حفاظا على الأهداف الكبرى في القضايا المصيرية.
إن البلدين الشقيقين يمثلان حال ارتباط عضوي وتداخل في المصالح المشتركة والقضايا الحيوية الكبرى، ولذلك فلابد من الارتفاع إلى مستوى الحاجة الملحة على مستوى المرحلة في تحقيق النتائج الإيجابية للوصول إلى الهدف الكبير، فلا يبقى للمصطادين في الماء العكر - من الداخل والخارج - أية فرصة لذلك.
وإذا كانت الدول المجاورة للعراق قد التقت لدراسة الأوضاع القلقة من الناحية الأمنية والسياسية في هذا البلد الجريح، فإننا نتصور أن المشكلة الأساس التي لابد للجميع أن يبحثوها هي مشكلة الاحتلال الأميركي الذي هو سر كل الحوادث المأسوية لهذا البلد المنكوب، وليست المشكلة هي ما يراد إثارته ضد سورية وإيران من التدخل في أوضاعه بتشجيع عناصر العنف الخارجية في هذا البلد المجاور أو ذاك، ما يدخل في نطاق الإثارة لا في نطاق الواقع، وهذا ما يتحدث به البعض عما يسمونه "الخطر الشيعي" في الانتخابات ونتائجها.
إننا نعتقد أن العراقيين في قياداتهم الدينية والسياسية قادرون على إدارة أمورهم بأنفسهم عندما يملكون حرية صنع القرار السياسي والاقتصادي والأمني، وخصوصا إدا أخذوا بأسباب الوحدة الإسلامية والوطنية، وواجهوا الأصوات الناشزة التي تلعب لعبة الطائفية المذهبية في عملية الإثارة من الداخل والخارج، وكذا الفئات الإرهابية الإجرامية من التكفيريين والمجرمين.
إن العراق قادر على صنع مستقبل حر، قوي، فاعل ومنتج على مستوى الطاقات المبدعة الكامنة في داخل شعبه، ولكنه بحاجة إلى الحرية والاستقلال والاستقرار، فلا تعبثوا به لخدمة مصالح الاستكبار العالمي وأعوانه.
أما لبنان، فإنه لايزال في الدوامة الانتخابية التي يتداولها الجميع في متاهات متنوعة ترتكز على حقوق الطوائف أكثر مما ترتكز على حقوق الوطن، الذي يبحث عن إرادة المواطن في اختيار ممثليه من الأمناء والصادقين والأكفاء والخبراء والمخلصين للإنسان كله، ولاسيما للجيل الجديد الذي نريد له أن يسبح في الينابيع الصافية ولا يغرق في المياه الموحلة، لأن الأجيال الماضية في كثير من نماذجها فشلت في تجربة تأسيس الوطن الحر المستقل، المتوازن، الغني والمنتج، فلماذا لا يبدأ هذا الجيل الباحث عن واقعية الحلول، وعن حركية الإنسان، وروحية المواطن، في تجربة جديدة يتعلم فيها من حركة التقدم في العالم كله، ومن روحية الخير في القيم الكبرى التي تلتقي فيها الأديان - ولاسيما المسيحية والإسلام - على قاعدة المحبة والرحمة والانفتاح على الله، لا الانغلاق باسمه
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 855 - الجمعة 07 يناير 2005م الموافق 26 ذي القعدة 1425هـ