العدد 854 - الخميس 06 يناير 2005م الموافق 25 ذي القعدة 1425هـ

من وحدة الوجود إلى تراتب المدينة

الفارابي. .. وقصة المدينة الفاضلة "4"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حسم الفارابي تردده وقرر الرحيل إلى بغداد في العام 297 هجرية "909م". آنذاك كانت عاصمة الخلافة العباسية تشهد الكثير من الضغوط السياسية وحركات التمرد أو الانقسام في أطراف الدولة ومحيطها الجغرافي.

هذه الفوضى السياسية لم تمنع ظهور مدارس فكرية متشعبة المنابت الاجتماعية والمصادر الفكرية. فالتنوع كان سمة ذاك العصر وخصوصا بعد سقوط المعتزلة السياسي وانهيار مشروعهم الفكري "الايديولوجي" الذي اتسم بالشمولية وحاولوا فرضه بالقوة على مخالفيهم ومعارضيهم.

ساعد هذا المناخ الفارابي على الانفتاح على مختلف التيارات والاستفادة من التعدد في المناهج، الأمر الذي أعطاه فرصة لتطوير فلسفته وجعلها نقطة لقاء بين اتجاهات متعارضة. ففي ذاك الفضاء المتسامح فكريا تعايشت مدارس مختلفة إلى حد التعارض وأحيانا التناقض التناحري. فهناك حاولت بقايا المعتزلة استعادة مكانتها الايديولوجية بعد الهزيمة السياسية التي تعرض لها مشروعها السلطوي. وإلى جانبها كانت تتحرك بعض اتجاهات سرية لها صلة خفية بحركة "إخوان الصفا" ومدارسها المتشعبة. وأيضا شهدت حركة التصوف حالات من النمو الخاص قاده الحلاج الذي نجح في توسيع رقعة أصحابه وأتباعه. فالحلاج تحول في تلك الفترة إلى شيخ "قبيلة الصوفية" وكان مريدوه ينشطون في أكثر من مكان ويسقطون عليه الأوصاف الألوهية وغيرها من حالات اعتبرت شاذة في مقاييس ذاك العصر. وإلى جانب حركة الحلاج الصوفية المتطرفة كانت بغداد تتداول كتب الملحدين والفلاسفة وغيرها من مؤلفات إغريقية وبيزنطية أشرفت الدولة في عهد المأمون وبعده على ترجمتها وترويجها. فالحركة الفلسفية في تلك الفترة لم تتوقف حتى بعد حصول الانقلاب السياسي الذي قاده الخليفة المتوكل. فبغداد كانت مدينة ناشطة لا تنام. وتشهد في كل يوم ولادة فكرة أو مشكلة. وهذا النوع من الاصطراع الفكري - السياسي شحذ ذهن الفارابي وأعطاه ما كان يحتاج إليه ويتمناه. فاذا أراد الاطلاع على كتب الفلاسفة أو الترجمات فهناك المئات منها منقولة مباشرة عن لغة اليونان والفرس والهند أو معاد تدوينها بأقلام فلاسفة مسلمين من أمثال الكندي أو ملحدين من أمثال الرازي "الطبيب" وابن الراوندي.

ولم يقتصر دور بغداد على هذه التيارات. فالمدينة كانت كبيرة إلى حد أنها اتسعت شوارعها للجميع. ففي كل حي كانت هناك مدرسة تشع منها معرفة. فالمدارس ازدهرت وطلبة العلم وفدوا إليها من كل العالم المعروف آنذاك. فهي ملجأ ومصهر في آن. وفيها نشأ الفلاسفة وترعرع الأدباء والشعراء والقضاة والفقهاء.

بغداد كانت تجمع الأضداد، فهي مدينة الحلاج "الصوفي" ومدينة الامام الأشعري الذي قاد حركة انقلابية عقائدية من داخل المعتزلة وضدها. فهذا الامام انتقل من المعتزلة إلى أهل السنة على مذهب الامام الشافعي ونقل معه أدوات تحليل ومناهج معرفة ساعدته على إعادة صوغ علم الكلام الإسلامي، فأطلق بحركته تلك ثورة كلامية في الفقه كان لها تأثيرها في إحياء علوم الدين.

وصل الفارابي قادما من فاراب إلى بغداد وهو في سن الأربعين من عمره لا يعرف قراءة العربية أو الكتابة بها. فالتحق بمدرسة أبي بكر السراج لتعلم اللغة والنحو. ثم التحق بمجموعة متى بن يونس وأخذ عنه علم المنطق.

استوعب الفارابي علومه الجديدة بسرعة فهو كان في سن ناضجة ويتميز بشخصية طموحة تريد نهل المعرفة بزمن قياسي. بعد ذلك ارتحل إلى حران التي اشتهرت آنذاك بمدارسها الفلسفية وتعلم هناك الحكمة والمنطق على يد الفيلسوف يوحنا بن جيلان. وحين اكتملت مداركه وتوصل إلى السيطرة على مناهج التحليل وأدوات التفكير المتداولة في عصره قرر مجددا العودة إلى بغداد ليبدأ من جديد دورة مختلفة في درجات حياته. فالفارابي الآن أنجز مرحلة الاستيعاب والتعلم والاستماع لينتقل إلى مرحلة القول والكتابة والتأليف والتوليف بين مدارس عصره.

في بغداد ألف الفارابي معظم كتبه ومال في منهجه العام إلى التركيب أو الجمع بين المتناقضات. فهو انكب على شرح كتب الفلاسفة وتوضيح الغامض منها وجعلها أقرب الى عقل قارئ العربية المسلم. وهو أيضا تقرب من الفلاسفة على أنواعهم ولكنه مال إلى الإيمان ورفض الالحاد. وهو أيضا أعجب بالمتصوفة، ولكنه اتخذ مسافة منهم ولم يحاول تقليدهم في شطحاتهم الروحية. فالفارابي جمع إلى حد ما بين الفلسفة والمنطق من جهة. والتصوف الوجداني والاسلام من جهة أخرى. فكانت عقلانيته متصوفة وتصوفه عقلانيا، ومنطقه اسلامي التوجه واسلامه منطقي يميل نحو التوفيق بين الثقافات والمذاهب ويرفض التطرف أو الانزلاق نحو حركات تكفيرية أو الحادية.

اختار الفارابي خط الوسط ومدرسة التوفيق بين المناهج والمعارف وأدوات التفكير والتحليل. وبسبب هذا السلوك اتجه ابن فاراب إلى تركيب الألوان ودمجها من دون تمييز أحيانا بين الرئيسي منها والفرعي. فكل الألوان كانت عنده على سوية واحدة وهذا ما دفعه لاحقا إلى تركيز نظريته على فكرة الوحدة. ومن فكرة الوحدة اتجهت فلسفة الفارابي نحو نظرية وحدة الوجود. فالوجود واحد ومن أصل مشترك.

نظرية وحدة الوجود آنذاك استهوت معظم الفلاسفة، كذلك جذبت تيارات واسعة من المتصوفة. وبسبب تلك النظرية التقت التناقضات على خط واحد. واستخدمها كل فريق لغاياته الخاصة.

الملحدون مثلا قالوا بوحدة الوجود لزعزعة الايمان بالخالق. فحين يكون الوجود المادي من أصل واحد فمعنى ذلك ان المعادن أصلها واحد وبالتالي يمكن تحويلها من مادة إلى أخرى.

المتصوفة "الحلاج تحديدا" قال أيضا بوحدة الوجود الروحي مستخدما أسلوب الملحدين بطريقة غير مادية. فالحلاج قال بوحدة الوجود ليؤكد الأصل الواحد للخالق والمخلوق. وحين يكون أصل الوجود مصدره الواحد فمعنى ذلك أن المخلوق هو الخالق والخالق هو المخلوق.

تبنى الفارابي نظرية وحدة الوجود في جانبيها فدمج بطريقة منهجية بين مادية الرازي وروحية الحلاج محاولا توليف رؤية فلسفية تجمع بين المادة والروح في اطار قراءة لا تريد التفريط بين التيارين ولا تريد الإفراط في التطرف بين العقلانية "الملحدة" والتصوف "الروحي" فتوصل إلى ما يشبه أو ما عرف لاحقا بالتصوف العقلاني.

هذه النظرية التوليفية التي جمعت بين تيارين متناقضين أحدثت مشكلات كثيرة في حياة الفارابي، كذلك اطلقت نقاشات كثيرة بعد وفاته. فابن سينا مثلا المعجب كثيرا بكتابات الفارابي ودورها في تعليمه المنطق وتفهيمه كتب ارسطو انتقد نظرية وحدة المعادن "الوجود المادي" التي قال بها الرازي ورفض كذلك فكرة تحويل المعادن من نحاس إلى ذهب مثلا. فالوجود برأي ابن سينا على أنواع والوحدة هي للتكامل وليست لتحويل الشيء نفسه إلى نقيضه. فالمعادن لها خصائص وجوهرها الأصل لا يتغير ولا يتحول.

ابن خلدون في مقدمته مال الى تأييد ابن سينا حين شرح وجهة نظره في آراء الفلاسفة. وفسر موقف الفارابي من نظرية تحويل المعادن التي أسس الرازي قواعدها العلمية بأنه يعود إلى فقره وحاجته الى المال "الذهب" بينما ابن سينا كان ينتمي إلى أسرة غنية ولم يكن بحاجة إلى المال وبالتالي رفض نظرية تحويل المعادن.

أخطأ ابن خلدون في تحليله الطبقي لتفسير اختلاف فلسفة الفارابي عن فلسفة ابن سينا وأصاب. أصاب لأن الفارابي كان يعاني من الفقر وأحيانا الجوع وأخطأ لأن فكرة ابن فاراب لها صلة بعصره والمناخات الثقافية التي اصطرعت في بيئته السياسية. فتلك الفكرة كانت حاجة لجأ إليها أحيانا الفلاسفة لتبرير موقفهم الايديولوجي الذي يتوسط التطرف من كل جهاته. والفارابي كان يرى أن مختلف المدارس على حق أو على الأقل ليست على خطأ وبالتالي هي متفقة على الكثير من الأمور حتى لو اختلفت على بعضها. ومن هذا المنطلق وجد الفارابي في نظرية وحدة الوجود الأساس الفلسفي لمنهجه التوفيقي بين المتناقضات.

عصر الفارابي كان عصر المشاحنات السياسية والفكرية. فما ان وصل إلى بغداد حتى سمع بانهيار الدولة الصفارية في بلاد فارس وقيام الدولة السامانية مكانها في العام 298 هجرية "910م". وكذلك نقلت الأنباء معلومات عما يحصل في بلاد المغرب من اضطرابات بين الفاطميين والادارسة انتهت أخيرا بسقوط الادارسة ونجاح الفاطميين في السيطرة على دولتهم في المغرب سنة 300 هجرية "912م".

وفي السنة نفسها نجح عبدالرحمن الناصر في حكم الأندلس وتوحيدها لمدة 50 عاما ، وفي السنة 301 هجرية "913م" بدأ الفاطميون يتحرشون بمصر ويحاولون مد نفوذهم من المغرب إلى المشرق وهذا ما زاد من مخاوف العباسيين في العراق وجيرانهم الأندلسيين.

كانت الخلافة آنذاك تعاني من ضعف بنيوي وزادت الانقسامات السياسية في عزل المركز عن الأطراف. ففي تلك الفترة قامت أقوى الدول الزيدية في اليمن، وترسخت دعائم الدولة الفاطمية في المغرب وباشر الفاطميون في بناء مدينة المهدية في شمال افريقيا في سنة 304 هجرية "916م"، وكذلك نجح الطولونيون في بسط نفوذهم على بلاد الشام وازدادت المواجهات العسكرية في الاندلس حين باشر عبدالرحمن الناصر هجومه المضاد على الفرنجة في سنة 308 هجرية "920م". وقبل ذلك وبالقرب من بغداد قامت الدولة السامانية ودب الصراع بين أهلها فاغتيل قائدها في العام 301 هجرية.

كل هذه الاجواء السياسية المشحونة بالاصطدامات مضافا اليها فضاءات ثقافية مشحونة بالصراعات الفكرية عززت قناعة الفارابي بنظرية وحدة الوجود كوعاء ايديولوجي للتوفيق بين المتناقضات.

الا أن سعادة الفارابي باكتشافه مثل هذه النظرية التي ساعدته على تكوين استقلال فكري "توفيقي" عن غيره لم تكتمل وكذلك لم تستمر طويلا حين وقع ذاك الحادث الذي لايزال الكلام بشأنه غير منقطع إلى حاضرنا. فآنذاك وفي العام 309 هجرية "921م" أعدم الحسين بن منصور الحلاج بالسيف في ميدان بغداد بسبب تلك النظرية التي انطلق منها ليدعي الحلول "تحويل البدن" بين الخالق والانسان. فالحلاج اعدم في عهد الخليفة المقتدر لأنه ادعى الألوهية وقيامه بالخوارق والمعجزات وحلوله "الروحي" بينه وبين الصانع.

اعدام الحلاج أربك الفارابي ونظريته عن وحدة الوجود، كذلك أحدث في فلسفته تحولات ثقافية "نفسية" دفعته إلى إعادة النظر في الجوانب المتطرفة منها. فالوجود واحد الا ان أصله على مراتب. والخالق واحد الا ان الوجود على درجات ومنازل. فهذه هي النتائج التي توصل اليها في أبحاثه الجديدة.

بعد الحلاج اعاد الفارابي صوغ فلسفته وانتقل من فكرة الوحدة المتساوية إلى وحدة وجودية مهندسة على مراتب... كما هو شأن المدينة "الفاضلة" التي سيقوم بترتيبها وتنظيمها لاحقاً

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 854 - الخميس 06 يناير 2005م الموافق 25 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً