ليس شرطا أن يكون العقد الأول من هذا القرن، عقد حروب. .. سيكون بلاشك عقد وهم وتراكم مظالم، ولن يتأتيا إلا بفعل حروب وضعت أوزارها قبل أو مع بدايته.
لا نريد أن نسرف في اليأس، ولكننا لا نريد أيضا أن نسرف في الأمل، فالنتائج تكاد تكون واحدة من حيث المساحات الفارغة والمعلقة التي تجد فيها الشعوب نفسها فارتهنت لحال من الصدمة... صدمة اليأس، وصدمة الأمل.
سيكون عقد وهم لأن المؤثرات والخطاب الذي يقود تلك المؤثرات أكثر بلاغة من الفقر وتفشي الأمراض والفساد وانتهاك حقوق الإنسان والخزانات الخاوية على احتياطها من العملات الصعبة... أكثر من التلويح بإسقاط طاغية، وحين يتم ذلك يصحو الناس على موجات من الطغيان تكاد تكون أمامه "موجات المد" "تسونامي" التي ضربت جنوب وشرق آسيا، رشفة فنجان مقارنة بمحيط في الذروة من غضبه وانفعاله.
سيكون عقد وهم، لأن مفتاح السياسة بالنسبة إلى الأفراد والدول لن يكون صناديق اقتراع، وحملات انتخابية تبرئ الأكمه والأبرص، بل سيكون مفتاحها إعلام طاغ يحيل من اليأس أملا ومن الأمل يأسا، ومن الديجور نهارا صراحا. بمعنى آخر: إعلام يمكنه أن يمرر قناعات - بإمكانات الديجيتال - بقيمومة الابن على الأب، والزوجة على الزوج، والظالم على المظلوم، والقوي على الضعيف بغض النظر عن مستوى النزاهة في الأمر. وسيكون عقد مظالم، لأن الوهم بطبيعته حين يسود تسود معه مظالم هي نتاج وثمرة للانعزال والانفصال عن الإدراك والتعاطي المنطقي والأخلاقي مع ما يعتري المجتمعات والأفراد من صدمات وأوبئة وخلل ينتاب بنيتها الأخلاقية والاجتماعية والتربوية، وهو خلل معد له سلفا يسعى إلى الاستفراد بالفضيلة - ضمن رؤيته - والأخلاق والوجود وكل ما ينضوي تحت تلك العناوين المفتوحة على الفهم والتفسير والنظر.
قرن مظالم لأن التكدس البشري سينظر إليه على أنه مجرد أرقام يجب ضخها وإبرازها، فيما يحيل تلك المظالم الى رد لها، ويحيل الوهم الى واقع ماثل لا يقبل الشك.
وظيفة الطائرة والدبابة وحاملة الطائرات، هي إعادة الجنة إلى سيرتها الأولى... نيران يعقبها دخان تعقبه حال بدائية للأرض وما عليها. لن يكون هنالك إعمار للأرض في ظل بطش الآلة وسكرة إمكاناتها... والورود التي تفشت في بغداد كانت بمثابة ورود يحملها الواحد منا لتحية عزيز لم يجف ماء قبره بعد... كأنها ورود تسبق لحظات التشييع والصلاة والمواراة، عدا عن لحظات تركها هناك على شاهد قبر مازالت تفوح منه كلمات لم يتمكن صاحبها من التلفظ بها قبل أن يوارى التراب.
الآلة بلا فم وبلا أنياب يمكنها أن تسهم في إعمار العالم، ومتى ما تأتى لها الفم والأنياب تظل مشروع خسف لا إعمار... مشروع إعادة الإنسان إلى كهفه الأول وتوتره الأول وبؤسه النموذجي والاستثنائي... تظل مشروع مقابر ومآتم وصلوات جنازات ونعيا مفتوحا على التاريخ والجغرافيا.
وحده الوهم القادر على تعطيل ملكات التاريخ... ووحده القادر على تحريف وتزييف الجغرافيا... ووحده القادر على صنع آلهة من عدم، بل آلهة من فجور وخلاعة! وذلك هو تماما ما يتم تكريسه في المشهد الدولي الذي تمارس أميركا خلاعتها و"إكسير" وهمها من خلاله. وإلا ما الذي يعنيه لنا نحن المصابين بفقر دم الحرية أن نتلقى ألف بائها من الـ F61 وB25 والتوماهوك وطائرات ستيليث؟ لدينا من الموت ما يكفي لأن نترك هذا الكوكب يفوح برائحة الجثث والدم ويكتظ بطوابير المعزين من الكواكب الأخرى. هل نحن بحاجة الى واقع أصبح وهما أكثر من وهم أصبح واقعا؟ ذلك فقط ما يملكه واقع آلة الدمار التي بشرتنا بتعلم لغات أربع، فيما نحن نكاد لا نحسن التشهد قبل الرمق الأخير من الحياة!
يمكنني أن أتفهم أن أميركا حريصة على أن ينال الإنسان خارج جغرافيتها بعضا من حقه في الصراخ... ولكنها بآلتها الجهنمية تدفعنا إلى صراخ يكاد يعادل زلزالا يصل الى تسع درجات بمقياس ريختر!
يمكنني أن أتفهم حرص أميركا الظاهر على أن تتاح لنا مساحة من هذيان حر، ولكنها تدفعنا عبر صناديق اقتراعها الملغمة بخطاب إعلامي مهووس بالهيمنة إلى مصحات عقلية لن نخرج منها إلا قنابل موقوتة أو جثثا!
يمكنني أن أتفهم حرص أميركا الغبي على منحنا مساحة من حرية، ولكننا لا نريد بهكذا مساحة أن نتحول إلى كلاب ضالة تتعرض لطلقات شرطة البلديات التي ترى فيها تلويثا لنظافة المدينة!
يمكنني أن أتفهم حرص أميركا المريض على تحويلنا إلى نماذج من عبرة، ولكننا في نهاية المطاف لن نعدم طريقة لتحويلها هي الأخرى الى كذبة كبرى ستقودنا إلى النار التي نؤمن بها كما نؤمن بالجنة، ولن نكون أغبياء في غفلة من الحس لنختار النار وندير ظهورنا إلى الجنة!
فقط من حقي أن أقول: إن جوقة الأصولية في أميركا التي انتخبت أمكنة تعبئة وعيها بكراهية وترصد وإلغاء الآخر، تقف اليوم أمام كل صناعة الهول التي ابتدعتها عاجزة عن تفسير أمر واحد: ما الذي دفعها الى كل ذلك؟ سوى خوفها من أن تمارس الطبيعة دورتها وأن يصحو الإنسان معافى من الكوابيس وجاثوم السلطة وهي بكل ذلك تتحول إلى غول ورقي سرعان ما يجد نفسه خارج سياق الحسبان وخارج سياق السلطة حين تتحول إلى وهم بامتياز! لكأن صناعة الهول في نهاية المطاف صناعة وهم!
لا بأس... سندفن موتانا بقراءات أنيقة الصوت... سنترك نسخا من وصاياهم على شواهد القبور... وصايا تنص على: أن نكون أكثر حذرا في التمييز بين أفعى الكوبرا وحبل نمده لإنقاذ غريق... أن نكون أكثر حذرا في التمييز بين محطة الـ CNN وإذاعة تعلن "ارتفاع شهيد" إلى الضفة الأخرى من الوجود... إلى الضفة الأخرى من الوعي... أن نكون أكثر حذرا في التمييز بين "اليمين" المتصهين و"اليمين" الموعود في العمق الآخر من الفردوس... بين تمثال للحرية يسوق كذبة الممارسة... وبين حرية لا تتأتى بالطوب والكونكريت بل بالعرق والدم وانتصاب الجبين الذي يكاد يحرج الأفق. بهذا فقط نسجل علامة فارقة وموقفا فارقا بين الوهم وذروة الصحوة
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 853 - الأربعاء 05 يناير 2005م الموافق 24 ذي القعدة 1425هـ