لكي تعرف قيمة بلادك لابد أن ترى صورتها في مرآة الآخرين، وهو الأمر الذي يجعلك حريصا على معرفتها في أي لقاء مع الأشقاء من الدول الأخرى. من هنا كنت أبحث عن صورة هذا البلد في أعين من التقيهم في الخارج، وخصوصا أن المتابعة اليومية للشأن المحلي قد تبعدك أحيانا عن رؤية الصورة الاجمالية.
من هذا المنطلق كنت حريصا في زيارة أخيرة لبيروت أن أعرف رأي بعض الصحافيين الكبار المهتمين بالشأن العربي العام. وفي آخر يوم زرت "السفير"، والتقيت برئيس التحرير جوزيف سماحة، واجتمع في غرفته عدد من مسئولي الاقسام بالصحيفة، ودار حوار عن التحركات الشعبية الموالية والمعادية للوجود السوري في لبنان، إلى أن وصل إلى الشأن المحلي اللبناني والمتنفذين وألاعيبهم الانتخابية، وسادت نبرة متشائمة عن تبعات التعاطي الطائفي مع الحوادث، في هذه اللحظة التفت سماحة نحوي وقال ضاحكا: "انظر، نحن نتكلم عن الطائفية عندنا، فما هي أخبار الطائفية عندكم؟". فأجبت بابتسامة حزينة.
بعد ذلك التقيت بناشر السفير طلال سلمان، وكان لدي رسالة قديمة وددت أن أنقلها إليه، فبدأته بالقول: "أود أن أشكرك على ما قلته قبل عشر سنين في حق شعب البحرين، كان ذلك في تصريح إلى إذاعة مونتي كارلو، في نشرة الثامنة، حينها كانت الحركة الشعبية في البحرين تطرح مطالبها، وكان الإعلام والصحافة المحلية لا تتوانى عن استخدام لغة التخوين والسب والشتم للمتصدين للحركة. في تلك الليلة، حين سألتك "مونتي كارلو" عما يجري في البحرين كان مما قلت: "ان ما يحدث ليس وليد اليوم ولن ينتهي غدا..."، وكانت كلماتك بلسما لمن كانوا يتلقون الرصاص، وبالذات من كانوا يقبعون في السجن".
كان الرجل ينصت في هدوء تام، ولعله يعود بذاكرته عشر سنوات إلى الوراء، ورد في تواضع جم، ان ما حصل من تطورات على الوضع كله بفضل تحركات البحرينيين وتضحياتهم ونضالهم الطويل ودخولهم السجون. وأن ما قاله لم يكن غير تشخيص لما كان يجري.
سألته عن البحرين كما يراها اليوم من الخارج، فأجاب بتواضع يحسد عليه: "أنا انتظر منك أن تطلعني على ما يجري، لأن ما يصلنا هنا يكون مشوشا وغامضا، فالرؤية غير كاملة". ووجدت نفسي في مأزق، إذ أحاول أن ألخص ما جرى خلال ثلاث سنوات في ثلاث دقائق، من بداية الانفراج السياسي والانتخابات البلدية والبرلمان والمقاطعة، التي انتهت إلى وصول أفراد "غير منتمين" غالبا، بعضهم كان يرى البرلمان كفرا.
هنا ابتسم الرجل ابتسامة ساخرة وقال: "والآن صار حلالا؟"
ولم يكن سؤاله بحاجة إلى تعليق، فأكملت الحديث عن التداعيات، إذ وجدت المعارضة نفسها خارج اللعبة، ومحاولة تصيد الحكومة عليها كل حركة تخطوها، وذكرت أمثلة سريعة على الندوات الأخيرة ومحاولات التضييق عليها بفرض قانون جديد باسم قانون التجمعات، نسخة أخرى من قانون "امن الدولة"، واختتمت بآخر ما جره الخلاف حول الشأن العراقي من تنافر طائفي مفتعل ومقيت.
أصارحكم، كنت أود أن أسأله عن إشكالية المقاطعة والمشاركة المثيرة للجدل، لكن هل تتصورون انه كان سيعطي رأيا في مثل وضوح رأيه الأول، مادام قد اعترف بضبابية الرؤية هناك؟
الرؤية كانت أشد وضوحا يوم كانت الصحافة المحلية تقاوم تطلعات الشعب، وتسيء قراءة الوضع في بلد يطالب فيه الناس بإلغاء "أمن الدولة" واجراءات الطوارئ والحكم على الناس بحسب انتماءاتهم السياسية والمذهبية. أما وقد باتت الرؤية مشوشة فهل يعطي صحافي ذكي بمثل هذا العمق والثراء، رأيه في موضوع غامض وملتبس الخيوط؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 852 - الثلثاء 04 يناير 2005م الموافق 23 ذي القعدة 1425هـ