ودعنا بالأمس القريب عام "الفتنة الاشد من القتل" ودخلنا عام التحدي والتغيير العام ،2005 الذي نرجو أن يكون مختلفا عن سابقه. ..
التحدي قائم والتغيير مأمول، وبين الوقائع القائمة والحقائق المطروحة على ساحتنا، وهي وقائع وحقائق بائسة لا تخفى على أحد في الداخل أو في الخارج، وبين الأمل في التغيير والتمني بالإصلاح، تبدو المسافات بعيدة، وإن كانت غير مستحيلة.
وكما قلنا في مقال الأسبوع الماضي، فإن العام ،2004 كان عام القتل والفتنة التي اشتعلت هنا وهناك، فهددت الدول والشعوب في صميم أمنها الوطني والقومي، من السودان جنوبا حتى العراق شمالا، مرورا بمصر وفلسطين، التي يسيل فيها الدم أنهارا بسلاح صهيوني؟ ومن القتل والتدمير من دون رادع...
وبالدرجة المحبطة نفسها كان عام الفشل الشامل في تحقيق اختراق حقيقي في منظومة الحكم الشائعة في المنطقة، بكل ما تحمله من علامات الاستبداد وتجليات الفساد.
وهذه كلها أمور لم يعد يصلح معها مجرد "الإصلاح" بمفهوم نص الكلمة، فقد "أتسع الخرق على الراتق" كما يقولون، وأصبح الأمر يتطلب تغييرا جذريا في أوضاع البلاد والعباد، تعييرا يدخل الإصلاح الشامل ضمن مكوناته، يزيل البالي ويبني بدلا منه بناء قوي الأساس مفتوح النوافذ صحي التهوية، لكي يتنفس فيه ساكنوه بحرية وأمن وراحة، وفق شروط ومعايير واضحة، وطبقا لقانون حاسم يضع الجميع تحت مظلته من دون تفرقة أو تمييز، ويكفل للأوطان سيادتها واستقلالها الذي ضاعت معالمه تحت أقدام الهجوم المزدوج، من الخارج عبر أساطيل الغزاة الجدد، ومن الداخل عبر كتائب التابعين والمروجين...
فما هو التحدي المطروح، وما هو التغيير المطلوب إذن؟
- نقول إن أهم أسئلة التحدي المطروحة والمؤجلة من العام الماضي، كثيرة وشائكة، وأهمها طبعا هل يمكن أن يشهد العام الجديد تحقيقا للسلام واستقرارا للأمن يسود المنطقة، وخصوصا في فلسطين والعراق والسودان، هل يتوقف التصعيد، بل الهجوم الأميركي، السياسي العسكري الإعلامي الشامل علينا، في ظل قيادة جماعات المحافظين الجدد، الذين ازدادوا قوة ونفوذا في الإدارة الأميركية؟
وبالمقابل هل يشهد العام الجديد اختراقا حقيقيا لمشروعات "الإصلاح الديمقراطي" المتكاثرة المتناسلة، في ظل الضغوط الأميركية من ناحية، والضغوط الداخلية من ناحية أخرى... ثم هل تخمد نيران الفتنة الطائفية والمدنية والعراقية المتوسعة من أقصى الجنوب لأقصى الشمال، في ظل تحريض المحرضين وتقصير، المقصرين!
- أخشى أن أصدم القراء بالاجابة نافيا أن يشهد العام الجديد 2005 اختراقا حقيقيا في هذه الاتجاهات، فالمقدمات السائدة والاوضاع الراهنة، لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج تشير إلى بداية الاصلاح عند حده الأدنى، والتغيير عند حده الأقصى، إنما المراوحة والمراوغة ستكون هي الحاكمة!
فمن الصعب تصور أن السلام سيسود فلسطين أو العراق، طالما أن جيوش الاحتلال الاسرائيلية الاميركية، تمارس هواية القتل والغزو والتدمير، ومن الصعب تخيل أن النظم الحاكمة في بلادنا ستتخلى طواعية عن انفرادها بالسلطة والثروة، بالحكم والحكمة معا، طالما أنها مطمئنة أن الضغوط الداخلية والخارجية لا تمثل لها تهديدا صريحا، ومن الصعب تصور أن نيران الفتنة بكل اشكالها ستخبو وتخمد، طالما أن اسبابها قائمة مع مظالمها، وأن مشعليها يقفون دوما على استعداد تام، للعمل بكل همة.
فما هو البديل لكل ذلك؟!
- نقول: إنه التغيير، تغيير الأفكار والرؤى، قبل مجرد تغيير الاشخاص والمؤسسات على رغم أهمية ذلك، وأهم إشارات التغيير، أن نعيد للوطن والوطنية والمواطن المعنى الحقيقي والعميق، بعد كل ما جرى من حملات سياسية اعلامية كاسحة، هدفها تدمير معنى الوطن بحجة اللحاق بالعولمة، وتشويه معنى الوطنية بحجة أنها شوفينية ضيقة وانغلاق سلفي، وتحقير قيمة الشرف والاستقلال والكرامة عند كل مواطن، بدعوى أنها شعارات فارغة على السنة صارخة، تدمر وتسفه وتشوه كل هذه المعاني، وتحولها استهزاء وتحقيرا إلى "وطنجية وقومجية وصربجية" إلى آخره من هذه المصكوكات الغبية!
ولا ندري كيف يقوم وطن حر مستقل من دون مواطنين احرار مستقلين، وكيف تطبق ديمقراطية من دون ديمقراطيين بالايمان، وليس بالارتزاق والتربح، وكيف تحقق السيادة والكرامة والاستقلال، في ظل تسفيه قيمة الوطن واحتقار معنى المواطنة... وكيف يقوم البناء الاقتصادي والتقدم! التنموي الشامل، على فلسفة الاقتصاد والهامش المرتكز على السمسرة وخطف الارباح والمزايا لصالح قلة ضئيلة، على حساب تجويع الغالبية الساحقة!
نعرف جيدا أن هناك من سيقفز الآن في وجوهنا، زاهقا صارخا، إن هذه "دعوات شمولية تعود بنا إلى عصور الانغلاق، والقطاع العام والتخطيط المركزي وكبت حرية الاقتصاد وبالتالي السياسة... لكننا نرد بالقول عودوا إلى "الأم الرؤوم" فما كان يمكن لاميركا ذاتها أن تصبح أكبر قوة اقتصادية "بنسبة 40 في المئة من اقتصاد العالم"، ولا أن تصبح أعظم قوة سياسية عسكرية تكنولوجية، إلا بتوحيد المهاجرين من كل شكل ولون وثقافة، تحت راية "وطن حر مستقل لمواطن حر مستقل".
الان... ندعي أن بداية التغيير الحقيقي، الذي ينقلنا من حال التدهور والتخلف والفقر والمعاناة، إلى حال البناء والتقدم، تكمن في العودة إلى إعلاء قيمة الوطن والوطنية واحترام حقوق المواطن والمواطنة، وتقديس معنى الاستقلال والسيادة والكرامة.
وهذا يستدعي إعادة بناء العقل والفكر والوجدان، بعد أن اغتاله "تزييف الوعي بأسلحة التضليل الشامل" التي تظلل سماواتنا بضباب اسود وبهواء مسمم وبسحابات داكنة، تحمل الاكاذيب والخداع التي يطلقها العزاة القادمون والمستعمرون الجدد، فيرددها ترديد الببغاوات كتبة وكتائب المبهورين المخدوعين، أو المخادعين المزورين، واقرأ ياعزيزي القارئ جيدا بعض ما يجري على صفحات الصحف أو شاشات التلفاز التي تتحدث العربية ببرود وبلادة، لتكتشف الحقيقة بنفسك!
ونحسب ان ثمة صفقة غامضة، قد تمت خلال الفترة الماضية، بين اميركا وكثير من النظم العربية الحاكمة قوامها تبادل المصالح والمنافع... فها نحن نشهد ونسمع لهجة التوافق، أو الاتفاق، بين الطرفين، على أن تخفف الولايات المتحدة الأميركية من ضغوطها الشديدة على النظم الحاكمة لاجبارها على ادخال إصلاحات سياسية واقتصادية تعليمية وتثقيفية عاجلة، تحت مظلة "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، الذي تبنته قمة الدول الصناعية الثماني في ولاية جورجيا الاميركية، يونيو/ حزيران ،2004 مقابل ان تلطف بل توقف الحكومات العربية معارضتها الضمنية أو العلنية، للسياسة الأميركية عموما، وللاحتلال الاميركي للعراق والاستعمار الصهيوني الفلسطيني خصوصا.
وهذه صفقة تحقق المصالح الحكومية الحاكمة في البلاد العربية، التي تريد الاستمرار بحجة الاستقرار، غصبا عن إرادة الشعوب، وتحقق في الوقت ذاته المصالح الاستراتيجية الاميركية، بفرض سياستها وسياسة "اسرائيل" على لمنطقة من دون منازع، بل من دون مجرد متظاهر واحد يخرج إلى الشارع احتجاجا! بصرف النظر عما تحدث عنه مشروع الشرق الأوسط الكبير من ضرورة ادخال اصلاحات ديمقراطية عاجلة في البلاد العربية والإسلامية، وبصرف النظر ايضا عن المبادئ التي تحدث عنها الرئيس الأميركي بوش، في خطابه الشهير يوم 6/11/،2003 واعترف فيه علانية بأن اميركا أخطأت في ترك هذه البلاد تغرق في الاستبداد والفساد، ودعمت نظم ودكتاتورية، ومن ثم فإن على اميركا من الآن فصاعدا أن تعمل على نشر الديمقراطية وفرضها فرضا!
وحين نتأمل هذه الصفقة الانتهازية، نكتشف أن الرهان على أن تقوم الحكومات والنظم الحاكمة في بلادنا، باصلاحات ديمقراطية حقيقية، هو رهان خاسر بالضرورة، لانه يكتفي بتمرير الاصلاحات الشكلية التجميلية التي تضمن استمرار الحال على ما هو عليه مع بعض التعديلات... وبالدرجة نفسها ندرك أيضا أن الرهان "المتأمركين العرب" وكتائبهم المتزايدة، على الضغط الاميركي والتمويل الاميركي، لفرض الديمقراطية المستوردة والمعلبة، هو كذلك رهان خاسر. ويصبح رهاننا الاساسي والوجيه على "صحوة وطنية عامة" تستعيد للوطن شرفه ومعناه، وتستثير في المواطن حميته الوطنية، ونزوعه الانساني الطبيعي نحو الحرية والكرامة، تحديا لترهيب الداخل وترغيب الخارج!
وفي ظل هذا الوطن، وبعقل وفكر هذا المواطن، يمكن أن نعيد بناء التقدم، على انقاض ما هو قائم من مظاهر التخلف والاستبداد والفساد وبيع الأوطان لأول من يدفع وتأجير الاستقلال لمن يستعمر ويطمع!
ومن دون بناء هذا الوطن بفكر هذا المواطن وجهده، فإن الصفقة الانتهازية بين نظمنا الحاكمة، وسادة البيت الأبيض الاميركي، ستجهض أي اصلاح ديمقراطي أو تغيير حقيقي، سواء تمنيناه هذا العام، أو في الاعوام المقبلة. وبالتالي سيستمر عرض المشهد البائس على المسرح العابس، إذ أوطان تحت التأجير، ومواطنون قيد القهر في ظل الازمات الاقتصادية الاجتماعية من ناحية، ومن ناحية أخرى تحت قمع القوانين الاستثنائية وحال الطوارئ والاعتقال والاعدام خارج القانون، وانتهاك حقوق الانسان وتقييد حرية الصحافة والرأي والتعبير، ومصادرة حرية الاختيار والمشاركة الحقيقية.
فهل يمكن، في ظل كل ذلك، أن يأتينا العام الجديد، بأمل جديد؟!
خير الكلام:
يقول ابراهيم اليازجي
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طغى السيل حتى غاصت الركب
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 852 - الثلثاء 04 يناير 2005م الموافق 23 ذي القعدة 1425هـ