اختار محمد الأنسي المكان والزمان لينتحر ليس لأنه اكتشف كيف استخدمه الأميركيون كدمية، بل لأن أسرته نبذته وحرمت عليه دخول أراضي اليمن حيا أو ميتا. وأمام البيت الأبيض في واشنطن جاء وصب البنزين على سترته ثم فوجئ بعدد من رجال الشرطة يدفعون به إلى الأرض قبل أن يبادر إلى إشعال ولاعته. في جيبه تم العثور على رسالة موجهة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش فيها بعض العبارات التي رغب أن تبلغ بها أسرته، اذ قال ان وفاته أفضل هدية يقدمها لأسرته التي تبرأت منه. محمد الأنسي البالغ 52 عاما من العمر خضع لاحقا للعلاج وبدأ يتعافى، ويفترض أن يكون الشاهد الأساسي في القضية التي رفعتها الولايات المتحدة ضد الإمام اليمني محمد علي حسن المؤيد الذي قبضت عليه سلطات الأمن الأميركية نتيجة تعاون سلطات الأمن الألمانية. التي قامت بالمساهمة في حصول الأميركيين على الإمام اليمني لتعبر عن صدق نواياها بالتعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب. وستبدأ جلسات المحاكمة بتاريخ العاشر من الشهر الجاري. وكانت صحيفة "بيلد" الشعبية الواسعة الانتشار في ألمانيا وصفت الإمام المؤيد بأنه كان يشغل منصب وزير المالية التابع لأسامة بن لادن. ووفقا لأقوال وزير العدل السابق جون اشكروفت فإن المؤيد قام بجمع تبرعات لـ "القاعدة" بلغ حجمها 20 مليون دولار.
يعتبر الإمام المؤيد بطلا شعبيا في اليمن. وقد حاول الرئيس اليمني علي عبدالله صالح التدخل للإفراج عنه وخصص مبلغ 50 ألف دولار من خزينة الدولة لتصرف على أتعاب المحامين كما تدخل شخصيا لدى المستشار الالماني غيرهارد شرودر، من دون أدنى نجاح. من جهة أبلغه شرودر أن القضاء في ألمانيا يعمل باستقلالية، ولكن الحقيقة أن ألمانيا لم تكن لديها رغبة في وضع عراقيل أمام رغبة الولايات المتحدة بالحصول على الشيخ اليمني الذي تتهمه بجمع الأموال لمنظمة أسامة بن لادن.
مازالت الحكومة اليمنية غاضبة على برلين وخصوصا أنه لم تظهر حتى اليوم أدلة مؤكدة تثبت التهمة الموجهة إلى الإمام المؤيد. ولكن هناك شكوكا متزايدة بشأن الشاهد الأساسي وهو محمد الأنسي الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة. إذ كان الأنسي هو الذي وشى بالإمام المؤيد إلى الشرطة الفيدرالية الأميركية "أف بي آي"، واتفق مع الأميركيين على استدراج الإمام إلى مدينة فرانكفورت بألمانيا. نجح الأنسي أولا بالتقرب من المؤيد وأقنعه بأن في ألمانيا بعض رجال الأعمال العرب والمسلمين الذين يرغبون بالتبرع بمبالغ كبيرة لأسامة بن لادن، لكنهم يشترطون أن يطلعهم الإمام بنفسه على كيفية التصرف بالمبالغ التي سيقدمونها بواسطته. وحين اقتنع الإمام بفكرة السفر إلى فرانكفورت نزل في مطار شيراتون المتاخم للمطار إذ استعدت الشرطة الفيدرالية الأميركية بالتعاون مع الألمان مسبقا وتم زرع أجهزة استراق السمع وكاميرا صغيرة داخل غرفة الإمام وعند سكرتيره الخاص. بعد وقت قصير ألقي القبض على الإمام المؤيد وأودع السجن بألمانيا ثم تم تسليمه للولايات المتحدة. حصل الأنسي على مئة ألف دولار نظير هذه العملية ولكنه راح لاحقا يطالب الأميركيين بمبلغ خمسة ملايين دولار بدلا من "البقشيش" الذي حصل عليه. لكن الأميركيين سخروا منه فقرر الامتناع عن الإدلاء بشهادته أمام المحكمة، ويأمل الأميركيون أن يغير الأنسي رأيه.
الأنسي صاحب ماض أسود. فهو مطلوب في اليمن كما من المنتظر محاكمته في الولايات المتحدة بسبب تقديم شيكات من دون رصيد. عمل في السابق في وظيفة متواضعة بالسفارة الأميركية في صنعاء ثم فصل لعدم انتظامه في عمله. بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 عرض خدماته على الأميركيين الذين كانوا في ذلك الوقت بحاجة إلى متعاونين يساعدونهم للحصول على معلومات عن منظمة "القاعدة"، وسرعان ما بدأ يقص عليهم روايات من عالم ألف ليلة وليلة.
وكان رصيده الذي اقتنع الأميركيون به صورة يظهر فيها وهو يصافح السفير الأميركي في اليمن. في الأيام السعيدة كان يضع مئة دولار بقشيش في جيب الحلاق الذي يزوره، وفي الأيام السيئة كان يتسكع في المقاهي ثم يزور مراكز المسلمين سعيا للحصول على معلومات للبيع. وحين حصل على وظيفة مشرف على مكتبة تابعة لمركز الهجرة الإسلامي في مدينة قريبة من واشنطن ترك منصبه مخلفا وراءه فاتورة هاتف قيمتها 1500 دولار. استهل عمله بالحديث عن الإمام المؤيد، مشيرا إلى أنه من أبرز معاوني أسامة بن لادن.
وكان الأنسي يزور الجامع في صنعاء الذي يشرف عليه الإمام المؤيد الذي يقول الألمان انهم كانوا يعرفون أنه يجمع تبرعات لحركة "حماس" الفلسطينية. بعد زيارة سريعة لليمن عاد الأنسي ليبلغ الأميركيين أن الإمام أطلعه على سر خطير وهو أنه نجح في جمع تبرعات قيمتها 20 مليون دولار لأسامة بن لادن لشراء أسلحة. قررت وزارة العدل الأميركية التحرك على الفور. تم تكليف الأنسي بالعودة إلى اليمن وإبلاغ الإمام أن بعض المسلمين في الولايات المتحدة يريدون التبرع بواسطته شخصيا بمليوني دولار ليسلمها لأسامة بن لادن. أطلع الأميركيون سلطات الأمن الألمانية على أنهم اختاروا فرانكفورت لاستدراج الإمام على رغم أن الجهات الألمانية لم تكن مقتنعة بأن الإمام يجمع تبرعات لـ "القاعدة". لكن واشنطن استخدمت الضغط السياسي.
الشهادة التي سيدلي بها الأنسي أمام المحكمة ستقرر مصير الإمام المؤيد. لكن الأنسي قال قبل أيام انه لن يدلي بشهادة أمام المحكمة. في غضون ذلك يشار إليه في اليمن على أنه رجل خائن. كل يوم تظهر معلومات جديدة ضده تجعل شهادته عرضة لمزيد من الشك. وقد نفى الإمام المؤيد حتى اليوم أن يكون على علم مسبق بحوادث الحادي عشر من سبتمبر. الأدلة التي تملكها المحكمة الأميركية، ترجمة لمحادثات تمت على مراحل بين الإمام المؤيد ومحمد الأنسي داخل غرفة الأول بفندق شيراتون فرانكفورت. الملفت للنظر أن الأنسي قام بترجمة أقوال المؤيد. ويقول محامي الشيخ اليمني ان الأخير لم يشر بكلمة إلى "القاعدة"، وان الأنسي ترجم أقوال الشيخ خطأ ليرضي الأميركيين ويحصل منهم على مكافأة كبيرة
العدد 852 - الثلثاء 04 يناير 2005م الموافق 23 ذي القعدة 1425هـ