العدد 851 - الإثنين 03 يناير 2005م الموافق 22 ذي القعدة 1425هـ

عبدالمحسن الصحاف... الشاعر حينما يتلبسه حب الوطن "3 - 3"

جامعة البحرين - أنيسة المنصور 

تحديث: 12 مايو 2017

بالروح التاريخية التوثيقية نفسها يتناول الشاعر في قصيدته "جنت على نفسها براقش" النتائج الخطيرة التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى التي شارك فيها ملك الحجاز الملك حسين إلى جانب الحلفاء، وما لحق الألمان من هزيمة منكرة وفشل ذريع، ونعى عليهم، وذم قائدهم "غليوم"، واصفا الهزيمة الشنيعة التي تعرضت لها قواتهم من سحق وتدمير، وعني بوصف مشاعر الإحباط والمعاناة النفسية المؤلمة التي قاساها ذلك القائد، كما يشير إلى محاولته الهروب من هذا الموقف الصعب بقذف نفسه في اليم تواريا عن الأنظار وتخلصا من الهزيمة: "الكامل" يا خيبة الألمان مما نابهم من هول خطب مزعج وعياء أو ما ترون "غليوم" بات يئن من سحق الهجوم وحسرة الضعفاء قد كاد عند النهر يغرق نفسه حتفا لسوء تقهقر ورثاء وبالمقابل أثنى على القائد البريطاني الذي تحقق النصر على يديه، وأشار إلى ما حظي به من تكريم وثناء من قبل دولته ورئيس وزرائها "لويد جورج"، كما ألمح إلى الفرحة التي عمت الجيش المظفر، ومظاهر الابتهاج بالإنجاز الذي تحقق: و"لويد جورج" قد أطال ثناءه للقائد المرشال في البيداء وجناحنا المنصور أصبح منشدا رجز الحماسة نحو نهر الماء ويرسم الشاعر مشهدا لميدان القتال يصف فيه وضع الفريقين، ويشير إلى كثرة الأسرى في طرف العدو الذين تعذر عدهم، وإلى تضخم أعداد الجرحى والقتلى إذ غصت بهم ساحة المعركة، كما وصف الغنائم التي حازها الجيش المنتصر من أساطيل الأعداء، وقواعدهم الحربية ومعاملهم إلى غيرها من عناصر القوة العسكرية وأدواتها: لم نستطع عد الأسارى دهشة من كثرة الجرحاء والقتلاء حزنا أساطيل العدى من قوة وأماكنا عدت بلا إحصاء ومعاملا قد حطمت في خطهم من نار طياراتنا عجزاء ومدافعا من كل طرز أطلعت في الطائشين بغزة وشقاء

آلية التصوير عند الصحاف

وعني على وجه الخصوص بوصف العدد الهائل للقتلى في جيش العدو مستخدما آلية التصوير، معولا على صورة كثيرا ما ترددت في شعر الأقدمين للتعبير عن ضخامة عدد الضحايا وكثرتهم، فتصور ان طيور الفضاء، ووحوش الأرض أتخمت وأصابها داء الهيضة بسبب كثرة اللحم الذي توافر لها من أجساد الأعداء، ولتهويل المنظر جعل الجثث تتراكم فوق بعضها، مماثلا إياها بالبناء المرصوص الذي صفت لبناته على بعضها، واستهل وصفه بمخاطبة الحرب قائلا: يا حرب قد أشبعت أطيار الفلا والوحش غص بهيضة الأشلاء جثث على جثث حكت رص البنا بين الأسود وصولة الزملاء كم من مدرعة لهم فزنا بها تغني مشاهدها عن الأنباء ويلتفت الصحاف إلى الجناح الثاني للعدو، إلى "تركيا" فيخاطبها مقارنا بين شبابها في الماضي، وعجزها وما أصابها من شيخوخة في الحاضر، ويعول على فن التورية في لفظة الفتاة بمعنيها اللغوي والسياسي. فهي تعني أساسا الشباب والفتوة، كما تتضمن إشارة إلى الجمعية المعروفة في "تركيا" آنذاك "جمعية تركيا الفتاة" وهي الجناح السري لحزبها العلني حزب "الاتحاد والترقي". وكان للمطابقة بين لفظتي "الفتاة" و"الشمطاء" دورها في تجسيد حال القوة في الماضي، وحال الضعف في الوقت الراهن، كما أشار إلى ما ركبها من مشاعر الغرور المبني على الأوهام، بسبب أساليب الخداع والزيف التي عوملت بها، ولسذاجتها وغبائها صدقت تلك الافتراءات فانتفخت تيها أجوف، حتى تضخمت ومن ثم أصابها ما أصابها:

يا "تركيا" كنت الفتاة بما مضى

والآن شبه أسيرة شمطاء

يا "تركيا" نفخوك نفخا زائدا

خدعوك توهما بجزاء

يا "تركيا" عز النفوس قد انطفت

أنوار تلك الكهربا بخفاء

يا "تركيا" صدقت ان سرابهم

ماء وإن الوعد وعد وفاء

وأظهر الشاعر تشفيا مما أصاب الدولة التركية، ومما حدث لحكامها القدامى السلاطين من بني عثمان. كما هاجم حكامها الجدد من العلمانيين أصحاب "حزب الاتحاد والترقي":

نوحي على "الأستانة" العذرا التي

ملكت بنفخ البوق والإغواء

فالاتحاديون في أرجائها

عاثوا فسادا بانتما الأعداء

والملك ودعها وداع مفارق

والشؤم ضاجعها بغير نداء

مفردات تعبر عن الواقع

ومفردات الناظم وتعابيره تحمل الكثير من دلالات الواقع الساسي ومعطياته، فهو يشير إلى الهزيمة الشنيعة التي تعرضت لها "تركيا" في الحرب العالمية الأولى، مشبها مدينة "الأستانة" بالعذراء التي خدعت وظللت فانحرفت عن جادة الطريق. ولفظة "الاتحاديون" اختصار لجمعية "الاتحاد والترقي" التي هاجمها الناظم، وهي جمعية ضمت عددا كبيرا من المفكرين الأتراك من ذوي التعليم الحديث عملوا على إسقاط نظام السلطان عبدالحميد بسبب انتهاجه سياسة استبدادية قاسية. وانضم إليها فيما بعد عدد من القيادات العسكرية القوية.

وكان أعضاؤها يطمحون إلى إعادة الدستور الذي ألغاه السلطان، وإلى تجميع قوى الثورة ضد نظامه، وإلى إثارة السخط من حوله في داخل البلاد وخارجها. ونجحت هذه الجمعية في الانقلاب ضده، وقوبل نجاحها بترحيب كبير في دوائر الأتراك المثقفين، وفي دوائر كثيرة عربية وغير عربية. إلا ان رجال هذه الجمعية تبنوا سياسية قومية تركية، وسعوا إلى تتريك البلاد العربية ما جعلهم في مواجهة مع الحركة العربية الناشئة، وأدى إلى تأزم العلاقة بين الطرفين.

وبعد فشل السلطان عبدالحميد في انقلابه المضاد في 1909م حدثت عدة تحويلات أدت إلى ظهور "تركيا الحديثة" على يد "مصطفى أتاتورك" الذي أسس الجمهورية التركية وألغى الخلافة الإسلامية في 1923م، والكثير من مظاهرها الدينية، وأشار الشاعر إلى ذلك في البيت الأخير.

والصحاف يتبنى وجهة النظر العربية الساخطة على سياسة الأتراك في نظامها الإسلامي المنهار، وفي نظامها العلماني الغربي الجديد. كما أنه يمثل رؤية ممدوحه الملك حسين بن علي الذي كان أول حاكم عربي يحقق الاستقلال عن الأتراك.

شعر مناسبات ولكنه وثائقي

على رغم ان السمة الغالبة على شعر الصحاف انه شعر مناسبات وهو مصطلح أطلق على الكثير من الشعر الذي قيل في مناسبات معينة فإن النزعة الوثائقية بارزة فيه. فقد أتى سجلا حافلا بالكثير من جوانب الحياة. وشكل وثيقة أرخ فيها للحياة الطبيعية في البحرين بثمارها وعيونها ومصايفها، كما كان مرجعا أدبيا احتوى على الكثير من الإشارات إلى الوقائع السياسية والحربية التي عاشها وتفاعل معها، وخصوصا تلك التي تتعلق بممدوحه الأثير الشريف حسين بن علي والقوى السياسية التي تعامل معها.

لغة الصحاف الشعرية

وعلى المستوى الفني اتت لغة الصحاف بسيطة قريبة من التداول العام، وكان للنزعة الوثائقية تأثيرها على المستوى الجمالي، فغلب على أسلوبه النظم، وسيطر الاسلوب التقريري الجاف على جزء كبير من تعبيراته، وكثر استخدامه للاسلوب الخبري، وهذا يتواءم مع روح السرد والرواية للحوادث، ومن ثم الوصف وتفوق على التصوير فأتى الخيال فقيرا ومحدودا وان لم يخل بطبيعة الحال من الصور الفنية التي ترد لماما وبأسلوب مألوف. ومن التشبيه قوله مماثلا جيش ممدوحه بجيش الصحابة وجيش القائد خالد بن الوليد في تحقيق الانتصار على العدو: "الكامل".

فكأنما جيش الصحابة جيشهم

بعلا فتوحات وجد تمهد

أو خالد بن الوليد ومن سرى

مسراه في الأمر السديد الأرشد

ومن الاستعارة التي جسدت تساقط رؤوس الاعداء الشديد من قبل الحلفاء وركب مع الاستعارة تشبيها: "الكامل".

طحنت رحى الحرب الضروس رؤوسهم

طحن الحبوب بساحة الحلفاء

ومن الكناية التي عبر من خلالها عما أصاب تركيا من شؤم لطالعها وتدمير لكيانها ومزقها أشلاء متناثرة وفيها عمد الى عالم الحيوان يستمد منه معانيه كما هو الشأن في التراث الشعري العربي: "الكامل".

عبثت طيور البين في أفيائها

وتنوهشت بالحية الرقطاء

وترد فنون البديع بقلة ظاهرة ومن المقابلة التي ركبها ضمن التقطيع موازنا بين كل مفردة في الصدر بما يقابلها في العجز: "الوافر".

وذو جهل ينام على سرير

وذو أدب ينام على التراب

ومن الطباق: "البسيط"

وطيبة بضواحي الشام اتصلت

بعد التنائي فحيتها المسرات

ومن التصدير وقد ورد اللفظان متجاورين في العجز: "البسيط".

نادته روح صلاح الدين يا أملي

جرد سيوفك فالثارات ثارات

لم يهتم الصحاف بالبديع أو زخرفة أشعاره بفنونه ومن ثم أتى غالبيته متشحا بالعفوية بعيدا عن التصنع، كما غلبت موسيقى الاطار على ابياته فكانت موسيقى الوزن والقافية هي البارزة في تلك الأشعار، وعلى أية حال فقد فاقت القيمة الوثائقية فيما توافر من شعره على القيمة الجمالية





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً