لم تفرق الكارثة التي ضربت جنوب شرق آسيا بين حدود الدول وانتماءات الناس الدينية والسياسية وطبقاتهم الاجتماعية، ولم تتخذ أمواج البحر أي موقف عقائدي من هذا الشخص أو ذاك. حياد الطبيعة هذا يجعلنا نغرق في المثالية إلى حد ما في التعاطي مع القضايا التي ينشغل بها العالم الآن، هذه القضايا التي يذهب ضحيتها يوميا عشرات الآلاف في العالم، من جراء العنف المجنون في العراق والوحشية الإسرائيلية والإرهاب الدولي وغير الدولي المتجول في غير دولة ومدينة من العالم.
إن ما تركته كارثة زلزال جنوب شرق آسيا من آثار لا يمكن التعاطي معها على انها كارثة طبيعية فقط لا يمكن استخلاص الدروس منها، إذ إن الذي لا يستفيد من هذا الدرس لا يمكن أن يستفيد من أي درس في المستقبل، والذي يحيد هذا الفعل عن الدلالات الإنسانية التي يمكن أن تفهم منه، هو في الأصل لا يرى غير مصالحه الذاتية، لأن الأنا عنده تضخمت إلى الحد الذي أعمته فيه عن رؤية ما حوله.
إن الخسائر الاقتصادية المترتبة على هذه الكارثة كفيلة وحدها بالتوقف مطولا عند سياسة الهيمنة عبر الافقار من خلال الاقراض الذي تمارسه بعض المؤسسات العالمية على الكثير من الدول، وهي أيضا "أي الخسائر" كفيلة أيضا بالقول إن رفاهية شعب على حساب شعب آخر ليست إلا ضربا من الحماقة، لأن الكارثة في نهاية المطاف ستحصد الجميع ولن تفرق بين الأسود والأبيض، أو الفقير والغني، وبالتالي يكون من المهم لمستقبل الإنسانية أن تتقاسم الأمم والشعوب موارد الأرض ومنافع الحياة من دون أي اعتبار للأنا، لأن التقاسم الطبيعي يؤدي إلى التوازن في كل شيء، ما يؤدي لاحقا إلى الانشغال البشري في البحث عما يحفظ الناس في مواجهة كوارث الطبيعة.
لو تخيلنا مثلا أن زلزالا بحجم الزلزال الأخير ضرب منطقة فيها مفاعلات نووية أو مخازن أسلحة دمار شامل ماذا سيكون عليه حال البشرية في اليوم التالي لهذا الزلزال؟ وماذا سيكون بمقدور العالم أجمع أن يفعل لحظة ذاك؟
من المهم جدا أن يبدأ العالم بالبحث عن وسائل جديدة للحياة لا تكون محكومة بعقدة البقاء على حساب الآخر، لأن ذلك يجعل من السلام الإنساني مسألة ضرورية، لكن طالما بقيت الحال على ما هي عليه، وبقيت عقدة التفوق والهيمنة تتحكم ببعض صناع القرار في العالم، فإن مصير البشرية سيبقى أسير أمزجة وعواطف بعض القادة في العالم.
إن الكارثة الإنسانية الأخيرة لم تصل بعد إلى حجم الكارثة التي افتعلت في هيروشيما وناغازاكي العام ،1945 وكانت من فعل البشر، فالخسائر التي ترتبت على القصف النووي آنذاك فاقت الخسائر البشرية التي تركها الزلزال الأخير، وعلى رغم البشاعة التي تركتها عملية القصف النووي، فإن العالم وبدلا من البحث عن وسائل جديدة لمنع هذا الجنون التدميري في المستقبل أخذ في سباق تسلح وصل إلى حد يمكن معه أن يدمر العالم عشرات المرات إذا ما انزلقت الأمور إلى الحرب على مستوى العالم.
وقعت كل من الولايات المتحدة وروسيا معاهدات عدة للحد من التسلح النووي، وعلى رغم الخفض في الترسانات النووية في البلدين إلا ان ما يمتلكانه الآن من أسلحة تدمير شامل يدمر العالم أكثر من مرة، ولا يقتصر الأمر على هاتين الدولتين بل يتعداهما إلى الدول التي تمتلك أسلحة نووية وهي في ظروف جغرافية واقتصادية وسياسية ليست سليمة، وهناك بعض الدول التي لا يمكن لها أن تؤتمن على أسلحة دمار شامل ولا يمكن الركون إليها مثل "إسرائيل". إن هذه الترسانة النووية في العالم ليست أكثر من لغم يعمل على مزاجية الأشخاص ورهن غضب الطبيعة لا يمكن معرفة المخاطر المترتبة عليه طالما بقينا رهن هاجس إرعاب الآخر من أجل السيطرة ومن أجل الاستحواذ على كل شيء حتى لو كان ليس لنا ويمثل حاجة ضرورية للآخر.
إن حياد الطبيعة هو الدرس الأول الذي يجب من خلاله أن نتعلم ألا قوة عظمى أمام غضب الأرض، وألا أفضلية لشعب على آخر أمام الأمواج العاتية التي اجتاحت ثماني دول... فهل يتعلم العالم؟
العدد 850 - الأحد 02 يناير 2005م الموافق 21 ذي القعدة 1425هـ