قال الباحث الاردني رؤوف أبوجابر في محاضرة ألقاها في منتدى عبدالحميد شومان ان "عبق القدس وهالتها قديمة قدم الحضارة الانسانية وكانت بالنسبة إلى المسيحيين مهوى الافئدة اذ في ارجائها بشر السيد المسيح بتعاليمه وكانت "القيامة" البداية لانطلاقة الدين المسيحي الذي ينضم اليه هذه الايام اكثر من ثلث سكان العالم، وتأكد هذا الوجود المسيحي عندما اعلن الامبراطور قسطنطين المسيحية دينا عاما للامبراطورية الرومانية الواسعة العام 325م حتى اذا جاء الفتح الاسلامي العام 637م بدأت فترة العيش المشترك الاسلامي المسيحي من خلال العهدة العمرية التي اصدرها الخليفة العادل عمر بن الخطاب لاهل "ايلياء" فكانت بادرة سابقة في عصور لم تكن تهتم كثيرا بالتعددية او القبول بالآخر خصوصا اذا كان الامر يتعلق بالبلاد المفتوحة اثناء الحرب".
واشار في محاضرته التي القاها في العاصمة الاردنية عمان إلى انه "كانت في القدس كما لايزال طوائف مختلفة من الارثوذكس واللاتين والارمن والقبط والاحباش والسريان وانهم جميعا يحسدون بعضهم بعضا على حيازتهم للاماكن المقدسة والمزارات ويحاولون باستمرار المزايدة بالاموال على بعضهم لدى ذوي الامر من الاتراك في القدس وعكا واسطنبول في سبيل امتيازات يسعون الى اخذها من منافسيهم. اما مصدر رزق اهل المدينة فكان يتألف من صنع وبيع وتصدير الايقونات والمسابح والمطرزات والصلبان والتماثيل ومن الفوائد التي كانوا يجنونها من اقامة الزوار اي الحجاج بينهم اثناء المواسم حيث كان يزيد العدد في الموسم الواحد على الاثني عشر الفا".
وبين ابوجابر "نستغرب الآن وجود اوضاع كهذه بين مجموعات مسيحية كان شعار دينها المعلن "الله محبة" الا اننا سنتبين الامور بجلاء عندما ندرس قضية حريق كنيسة القيامة العام 1808 وما شابه من خلافات واتهامات وعنف فقد شب الحريق فجر يوم الاربعاء الواقع في 30 سبتمبر/ ايلول 1808 واستمر يومين كاملين لعدم توفر اية وسائل للاطفاء ودمر الكنيسة تدميرا كاملا بحيث ان اهل القدس اعتبروه كارثة كبرى تحل بمدينتهم وقد تولد لدى معظمهم ان الحريق مفتعل وان الارمن هم الذين تسببوا في اشتعاله رغبة منهم في ان يكون لهم دور اكبر في الاشراف على الكنيسة وقد أكد هذه الظنون الخلاف الكبير الذي جابه اعادة البناء ما جعل الناس يعرفون عندها ان الخلافات بين رجال الدين كانت اعمق بكثير مما يظهر على السطح فقد اعترض الرهبان الارمن بشدة عندما حصل الرهبان الارثوذكس على فرمان باعادة تعمير القيامة من السلطان محمود الثاني "1808 - 1839" وكذلك اعترض الرهبان اللاتين فلم يتمكن الروم الارثوذكس من المباشرة في اعادة البناء الا بعد تأخير استمر حتى 4 اغسطس/ آب 1809 وعندها قام الارمن بتقديم استدعاء الى الباب العالي مع ما يرافق ذلك من رشا سخية فامر السلطان بتشكيل لجنة من سبعة قضاة مسلمين برئاسة شيخ الاسلام فوجدت ان الحق للروم الارثوذكس الذين بدأوا في اكمال البناء الا ان الارمن لم يعجبهم ذلك فألفوا الانكشارية وهجموا علي الكنيسة حيث قتلوا نحاتا ماهرا وجرحوا الكثير من العمال وهدموا البناء بعد عملية نهب للموقع ولم يتمكن الروم الارثوذكس من اتمام العمارة الا في 13 سبتمبر 1810 بكلفة اجمالية بلغت 355 الف ريال".
وأكد ابوجابر ان التغيير الحقيقي في حياة المدينة كما في حياة بلاد الشام عموما حصل نتيجة لاحتلال البلاد من قبل الجيش المصري بقيادة ابراهيم باشا العام 1831 عندما صدر الامر بمنع الرشوة والخاوة واعتماد المساواة بين الناس ورغما عن كثرة الفتن والثورات التي حصلت اثناء وجود الجيش المصري في بلاد الشام حتى 1841 فانه من الانصاف القول ان فجر الحرية الدينية والفكرية والانفتاح الاقتصادي في القدس وفي فلسطين عموما انما بدأ بوجه عام هذه الفترة ويذكر المؤرخ عارف العارف في كتابه "المفصل في تاريخ القدس" ان العهد المصري كان: قد ساوى بين المسلمين واليهود والنصارى ومنع التمييز، كلف النصارى دفع الخراج مقابل تجنيد المسلمين في الجيش إذ الغى استعمال كلمة الجزية، اتاح للتجار الاجانب البيع والشراء داخل البلاد وكان محظورا ذلك عليهم الا في بعض الموانئ والثغور، الغى الضريبة التي كانت تجبى من زوار الكنائس والمزارات وبهذا شجع الزوار والحجاج على المجيء الى القدس، شجع المزارعين بالغاء حصة الخمس من الحاصلات كما شجع غرس الاشجار المثمرة وانشأ مصرفا زراعيا، شجع صناعة الصابون في القدس، كافح الرشوة ومنع تقديم الهدايا الى الحكام، كان له نشاط مشهود في الناحية العمرانية وحفظ الامن والاشراف على نظافة مصادر المياه وخصوصا برك سليمان، ومن اهم مآثره انه رفض تأجير ارض مساحتها خمسون فدانا وقرى مختلفة لخمسين عاما بأجور مغرية الى موزس مونيفيوري لاستيطان اليهود.
مضيفا "ان السلطنة العثمانية في اسطنبول كانت تنظر بقلق الى هذه التطورات ولا جدال بان محاولة العثمانيين الحصول على مساعدة الدول الغربية في حربها مع المصريين كانت السبب الحقيقي الكامن وراء قيام السلطان عبدالمجيد في 3 اكتوبر/ تشرين الأول 1839 باصدار الخط الهمايوني في بداية عصر التنظيمات للاصلاح إذ نظمت الادارة ورتبت شئون التجنيد الاجباري ومنعت المصادرة وأكدت المساواة بين اتباع الاديان ومنعت الغرامات والرشا والهدايا وسوء المعاملة والاستغلال".
واوضح ابوجابر ان "الصراع العربي الصهيوني عاش معنا منذ اواسط القرن التاسع عشر ولكنه اصبح خطرا ماحقا في العشرينات عندما وضحت الصورة بانه صراع مصيري ولذلك جند الشعب الفلسطيني جميع قواه لمقاومة هذا الهجوم ولم يتأخر رجال الدين عن المشاركة في جميع الاجتماعات والمظاهرات والمؤتمرات وخصوصا بعد ان تولى الحاج امين الحسيني زمام الامور عندما انتخب مفتيا العام 1921 وقد برز من بين المسيحيين على مر السنين رجال كانوا عنوانا للشعور القومي من خلال هذا العيش المشترك الذي نعمت به مدينة القدس فهذا المطران غريغوريوس حجار الذي عرف بلقب مطران العرب ينتخي امام الحسين بن علي العام 1924 مبايعا له بخلافة المسلمين فيقول "نحن نصارى فلسطين عرب نتمسك بارضنا وندافع عنها فنحن سكان الارض الاصليون وقد عشنا مع اخواننا المسلمين طيلة قرون بامانة ومحبة ونريد ان نكمل هذه الحياة معا لنجاهد ضد المؤامرات التي تحاك على وطننا" وفي مناسبة اخرى قام رجال الدين المسيحيون العرب الارثوذكس بعقد مؤتمر كبير مماثل لمؤتمر علماء الدين المسلمين يوم 7/8/1934 الذي اصدر فتوى واضحة تكفر كل عربي يبيع ارضا او يتوسط لبيع ارض لحساب الصهيونيين وكان قرار الكهنة عند اختتام المؤتمر - سموها فتوى مسيحية - اذا شئتم "ان اي مسيحي يبيع ارضا او يتوسط ببيعها الى الصهيونيين خائن لدينه ووطنه ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسيحيين".
مضيفا "وفي فترة لاحقة برز ممثلون جدد كانوا من اقدر الناس على وصف اوضاع العيش المشترك اثناء فترة الانتداب وبينهم بالاضافة الى خليل السكاكيني جورج انطونيوس صاحب كتاب "يقظة العرب" وعزت طنوس واميل الغوري".
واستذكر ابوجابر عددا من رجالات القدس الذين خدموا المدينة وهبوا للدفاع عنها وحماية مقدساتها قبل وبعد العام .1967
وخلص ابوجابر الى ان "اهم ظاهرة في دراستي لتاريخ القدس في العصر الحديث هو تشجيعها لاواصر العيش المشترك بكل محبة وثقة على رغم المصاعب الكثيرة التي جابهت البلد واهلها خلال هذه السنين ولقد كانت هنالك مشاركة فعلية في السكن ومع ان حارات القدس كان لها اسماء دينية منذ العصور الوسطى فانها بالحقيقة لم تكن قط محصورة بالنسبة إلى فئة معينة فاهل المدينة يعيشون في حارات المسلمين والنصارى والارمن باختلاط تام من دون اية صعوبة وكانت الاسواق مختلطة والامور التجارية والحرف اليدوية تسير كما يجب من دون اي تمييز ولا يحكمها سوى اتقان الصنعة وتقديمها لمن يطلبونها. اما في حقول الخدمات كالصحة والتعليم والادارة فقد كان العيش المشترك فيها يتجلى باحسن مظاهر فهذه المستشفيات والمصحات ولو انها مسيحية من حيث مؤسسيها والمشرفين عليها فانها تقوم بتقديم الخدمات العلاجية للجميع من دون استثناء، وهذه المدارس القبول فيها مفتوح للجميع من دون تمييز ".
خاتما بالقول "هكذا كانت القدس والحديث عنها يطول لو سمح الوقت الا انني مازلت أتذكر الايام السعيدة التي كنا نقضيها في المدينة المقدسة قبل العام 1967 واعتقد مخلصا ان خير ما انهي به كلمتي عن هذه المدينة الفاضلة ان اورد لكم قول مؤرخ القدس المرحوم عارف العارف في كتابه المطبوع العام 1960 عندما كتب "وانك لترى المسلمين والمسيحيين من ابناء هذا البلد وقد انطلقوا جميعا نحو هدف معين هو التفكير في مصير وطنهم وامتهم وهم يسيرون في هذا المضمار على نهج واحد، انهم متقاربون كل القرب من حيث الاخلاق والطباع ومن حيث المبادئ السياسية والاجتماعية ايضا وقد قاوموا الانتداب والوطن القومي اليهودي من دون ان يتمكن المستعمرون من تفريق صفوفهم وكان شعارهم الدائم".
يذكر ان رؤوف ابوجابر من مواليد السلط حاصل على دكتوراه في التاريخ الحديث من جامعة اكسفورد. يشغل الكثير من المراكز الفخرية نذكر منها: رئيس المجلس المركزي الارثوذكسي- في الاردن وفلسطين منذ العام ،1992 رئيس الجمعية الارثوذكسية منذ العام ،1992 رئيس جمعية النهضة الارثوذكسية العربية الخيرية منذ العام .1969 ويحمل عددا من الاوسمة. من مؤلفاته: كتاب "رواد عبر الاردن" بالانجليزية. اعادة نشر كتاب "خلاصة تاريخ كنيسة القدس الارثوذكسية". الوجود المسيحي في القدس "خلال القرنين التاسع عشر والعشرين"
العدد 849 - السبت 01 يناير 2005م الموافق 20 ذي القعدة 1425هـ