من الخطأ الاعتقاد بأن السلطات ستفرش الأرض بالورود كي تستعطف قلب "المقاطعين"، للمشاركة في انتخابات العام 2006 النيابية، وربما تسعى أيضا إلى أن تقاطع هذه التيارات الانتخابات البلدية.
وإذا كانت الحكومة لا تحتمل المجلس النيابي الحالي، ذو الطابع المحافظ، فإن تجربتها خلال الشهور الأربعة والعشرين الماضية - التي لم تخل من منغصات، وإن ظلت لفظية من دون أن تلامس الواقع، بسبب تجريد المجلس المنتخب من أنيابه - ستدفعها "الحكومة" للتمسك بتشكيلة برلمانية محافظة في ،2006 في الغرفتين: المعينة والمنتخبة. وربما كان هذا قرارها، أصلا، في العام ،2002 حين مضت إلى تعيينات في "الشورى" لا يمكن أن توصف إلا بالرجعية السياسية، حين ثبتت مفاهيم "الولاء" القديمة، التي تقوم على أساسها التوظيفات العامة.
كما أجرت الحكومة انتخابات على أساس دوائر تخل بمبدأ المساواة، وتعكس هاجسا سياسيا يستبطن، ضمن أمور أخرى، السيطرة على عدد المعارضين الذين يمكن أن ينتخبوا إذا ما شكلت دوائر انتخابية تراعي المعايير المعتمدة دوليا... ولا يخلوا إجراء كهذا من "تزوير" لإرادة الناخبين، ذلك أن جعل صوت انتخابي يوازي ألف صوت يصعب تبريره، إلا ضمن تبرير قائم على التدليس، اعتاد كثيرون القيام به للدفاع عن خطوات جائرة، من بينها حل البرلمان وقمع الناس، الذي برر ويبرر وسيبرر إذا ما حصل، لا سمح الله.
ويقال إن الحكومة أجرت انتخابات بلدية اعتبرتها "بروفة" لما يمكن أن تشهده انتخابات المجلس النيابي، ما جعلها تسعى لاحقا إلى التسريع في تجنيس الآلاف في الفترة بين مايو/ أيار وأكتوبر/ تشرين الأول .2002 وربما تكون "الوفاق" قد أعطت مبررا لمن يبحث عنه "أو لا يبحث"، لتسريع عمليات التجنيس ورسم دوائر مختلة، حين كشرت عن أنياب هشمت بها حلفاءها وليس خصومها السياسيين فقط، فعمدت إلى فوز "كاسح" في الانتخابات البلدية، من دون مراعاة "ليوم غد" القريب، أو إدراك بأن السلوك الانتخابي لتيارها سيكون تحت المجهر، وسيتم بناء استراتيجيات "مضادة" في ضوئه.
وعلى رغم أن إلغاء الحكومة الحوار مع الجمعيات الأربع له أسباب عدة، بعضها مرتبط بتصور الحكم لسيرورة الإصلاح، وعدم سعيه إلى إشراك حقيقي للمواطنين في القرار كما قد يتوهم البعض، وبعضها الآخر ذو صلة بتخبط المقاطعين، وخطئهم التاريخي باستبعاد جمعيات أخرى من الحوار، ودفعهم الملف الدستوري إلى مرحلة "كسر العظم"، لن يكون من السهولة الخروج منها من دون "إراقة" ماء وجه، الذي هو في السياسة أهم، أحيانا، من القضية نفسها... فإن أحد أسباب الإلغاء قد يكون مرتبطا برغبة السلطات في تشجيع تيار المقاطعين، وزيادة لحمته، الأمر الذي فعلته الحكومة قبيل الانتخابات الماضية، حين أصدرت جملة "فرمانات" من بينها تفسير لقانون الجمعيات لسنة ،1989 يمنع الأخيرة من دعم مترشحين، ما زاد من حجم التيار المقاطع، ودفع جمعية العمل الديمقراطي التي كانت تبنت قرار المشاركة، إلى الميل للمقاطعة، انسجاما مع قرار "الوفاق".
وفي الواقع، فإن التيار "المتشدد" في المعارضة لا يحتاج إلى مزيد من التشجيع، إذ يكفي ما فعلته الحكومة من سيئات لا تغتفر، طوال الشهور الماضية، على صعيد البلديات والبرلمان والنيابة العامة وحرية الصحافة والتوظيفات... إضافة - طبعا - إلى القناعة الأصيلة عند هذا التيار بجدوى المقاطعة، كمفهوم أوسع من مقاطعة البرلمان، لدرجة اعتباره نهجا استراتيجيا لا تكتيكيا "لاحظ ردود الفعل على تواصل بعض القرى مع القيادة السياسية..."، وما يقوي شوكة هؤلاء مفهوم "الكرامة" الذي يمنع الجمعيات الأربع من الإقرار بخطأ المقاطعة، إذا ما ثبت.
ومع ذلك، فإن هدف السلطات، فيما يبدو، زيادة قوة المتشددين، عل ذلك يقود إلى مقاطعات "شاملة" مستقبلا، للانتخابات البلدية والبرلمانية. ولتحقيق ذلك فقد يتم إجراء الانتخابات المحلية والنيابية في يوم واحد، ما يصعب من فصل الملفين، فإما أن تشارك في كليهما أو تقاطعهما، علما أن رئيس اللجنة العليا للبلديات حسن مشيمع يبدو ميالا لمقاطعة الانتخابات البلدية أيضا.
من الصعوبة تصور أن تدعم السلطات التيار المعتدل في المعارضة، عبر مبادرات على الصعيد الدستوري أو غيره، وإذا فعلت ذلك فهي تفعله ضمن تكتيكات هدفها تفتيت المعارضة غير المتماسكة أصلا، فهل في ذلك رد من طرف الإصلاحيين في الحكومة على اختيار المعارضين إليهم خصما أساسيا، حين تبنوا الدستور هدفا للطعون، وبذا يدفع الإصلاحيون، على الجانبين، ثمن تخليهما عن بعضهما؟
العدد 849 - السبت 01 يناير 2005م الموافق 20 ذي القعدة 1425هـ