قبل أكثر من عشرين عاما، كنا نغني وكنا نحتج وكنا نصرخ. بالمعنى الأشمل للصراخ والاحتجاج كنا نعبر عن أنفسنا بطريقة جيلنا. جيلنا نحن الذي نشأ على التخوم من كل شيء: بقايا مرحلة قديمة كانت تأفل: الحواري العتيقة وبؤس مازال حاضرا وروح شعبية مفعمة بالتمرد والسخرية، ومرحلة جديدة تختمر من رحم السبعينات القلقة إلى الثمانينات التي غيرت كل شيء.
لم يكن الفقر وحده ليصنع هذه الروح، فعندما نحكي لأبنائنا اليوم أننا كنا نقطع الطريق إلى المدارس مشيا على الأقدام لا يعود بإمكانهم أن يتصوروا المسافة ولا العناء. ولا يعود بإمكانهم أن يتصوروا كيف أن الصغار بإمكانهم أن يقطعوا الطريق من "حالة أبوماهر" أقصى جنوب المحرق إلى مدرسة الهداية أقصى شمال المدينة مشيا على الأقدام في رحلة قد تستغرق اليوم أكثر من نصف ساعة. أو أن أطفال القرى مثلا يسيرون أضعاف المسافة إلى مدارسهم. ليس بإمكانهم أن يتخيلوا كيف تعمل تلك الشبكة المدهشة من الأزقة التي تبدو كالمتاهة بشكل عجيب في اختصار المسافات والزمن. ليس بإمكانهم أن يتصورا أن هذا المشوار اليومي هو رحلة متجددة كل يوم. عوالم تفصح عن نفسها وبيوت وبشر وأبنية ومعالم، واليفاعة تتفتح من شباك يستعد أهله لصباح جديد، باب مشرع أو ابتسامة تصادفك في الطريق، أو روح حميمة تلفك من أم تطلب منك عونا يتبعها سيل من الدعاء لك بأن يحفظك الرب ويرقي مراتبك.
ينقلونهم اليوم بالسيارات فلم يعد مشوار المدرسة سوى تقليد ممل وطقس من الفجاجة في كل شيء. فالأبنية تبدو بلا نبض فيما هي تمر مرورا خاطفا أمام العين والشوارع ترهق النفس لشدة الازدحام. إنني أتحدث عن عشرين عاما وأكثر وهذه هي إحدى معاني الزمن: أن تعي زمنا ما ويعي ابنك زمنا آخر.
ما الذي يجعلني أفكر في هذا؟ أهو هذا العام الجديد الذي دخلناه؟ ليس هو بالضبط، بل لقاء مع صديق قديم. صديق جاء من اليمن. قبل أكثر من عشرين عاما، كان يغني وكنا نردد معه الأغنيات، نحفظها ونطلب منه مرارا أن يعيدها على أسماعنا. كنا نتقاسم وإياه كل شيء: الخبز والاحتجاج والحلم بعالم أفضل. إحدى أغنياته تقول:
"صنعاء يا أنشودة عبقت وأجاد في إنشادها الأزل
إن أبعدتني عنك عاصفة وتفرقت ما بيننا السبل
فأنا على حبي وفي خجل روحي إلى عينيك تبتهل
ألقاك منتصرا ومنكسرا وعلى جناح الشعر ارتحل
يجتاحني شوق ويسحقني شوق وفي التذكار يشتعل
ما نجمة بالأفق عابرة إلا هتفت بها متى نصل".
كنا نحتج وكنا نغني. الآن بعد أكثر من عشرين عاما صار لاحتجاجنا شكل وأشكال أخرى. إنه الزمن الذي يتغير ونحن الذين نتغير أيضا، لكننا لم ننس الأغنيات. وحدها الأغنيات التي لا تشيخ لأنها من ثمار القلب. رددناها معه بالصفاء نفسه وتبين أن أكثرنا مازال يحفظها عن ظهر قلب. لأنها أغنيات جيدة بالأساس وليس لأنها خاصتنا أو ذاكرتنا. لأنها تملك من الجودة ما يجعلها متجددة وحاضرة بقوة وليس لأننا نحفظها، فلو لم تكن جيدة لما حفظناها ولم تؤثر فينا.
لكن إليكم الجديد: شاهدت الأبناء الصغار يرددونها أيضا ويصغون إليها بانتباه في أفضل الأحوال ويدقون بأرجلهم على الأرض يتابعون إيقاعها. وللحظة ما تصورت أن الأغنيات والفن عموما ربما تكون من بين أشياء أخرى جسرا بين الأجيال. فإذا لم يعد بالإمكان أن نستنطق البيوت والأزقة ولا أن نحفز خيالهم على تصور أيامنا بكل ما فيها، فإن الفن ربما يكون الأداة. قد أبدوا مبالغا، لكن انظروا إلى يافعين ولدوا في الثمانينات ويحفظون أشعارا كتبت وشاعت على ألسن الناس قبل أن يولد آباؤهم وأجدادهم أحيانا. انظروا إليهم وهم يؤدون "الفجري" بكل أنواعه والفنون البحرية و"المخولفي" و"القادري" وكل ألوان الفنون الشعبية. ما السر؟
السر أن الأغنيات والفنون هي ثمار "القلب" ورسالة حب دائمة... كل شيء متغير في الحياة عدا "القلب". ها نحن اليوم بعد أكثر من عشرين عاما: قد يخبو الاحتجاج وتتغير أشكاله، والسياسة ستبقى بغيضة في كل الأحوال، لكننا مازلنا نغني مثلما كنا. وليس لي من تحية لصديقي القديم جابر علي الآتي من اليمن من سوى هذه
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 848 - الجمعة 31 ديسمبر 2004م الموافق 19 ذي القعدة 1425هـ