وفقا لما أعلن من بيانات، فقد ناقشت القمة الخليجية الأخيرة في المنامة مشروعا تقدم به جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة إلى قمة الكويت السابقة ونوقش في قمة جدة التشاورية في مايو/ أيار الماضي، ويتعلق بـ مخاطر العمالة الوافدة ويتضمن المشروع تحديد سقف زمني لبقاء العامل الأجنبي في المنطقة "بين وسنوات"، وألا توقع دول مجلس التعاون أي اتفاق دولي في خصوص العمالة الأجنبية، قبل أن تقوم بتنسيق كامل بينها. يذكر أن سوق العمل الخليجية تضم حاليا 12 مليون عامل أجنبي، يتوقع أن يصل الى 18 مليونا خلال عشر سنوات، كما تبلغ حجم تحويلات العمالة الأجنبية نحو 27 مليار دولار سنويا.
وعودة للعام ،1998 فقد اقرت قمة ابو ظبي التي عقدت في نهاية ذلك العام وثيقة للإطار العام للاستراتيجية السكانية لدول مجلس التعاون الخليجي . واللافت للنظر ان المنطلقات الاساسية للاستراتيجية قد عكست في مضامينها مكامن الخلل في الواقع السكاني الحالي لدول المجلس والتي جاء في مقدمتها عدم ربط سياسات التنمية المتبعة بدول المجلس بسياسات النمو السكاني ان لم نقل ان هناك تعارضا في الكثير من الاحيان بينهما. كما ان انماط التنمية التي اعتمدتها دول المجلس استندت بالاساس على قوة العمل الوافدة التي تزايدت اعدادها بشكل مهول خلال العقود الماضية. وهذه القوة كما يقول الاقتصادي السعودي عبدالعزيز الدخيل أعطت من جهد العمل أكثر مما أخذته من أصحابها.
بالاضافة الى ذلك فإن الخلل في التركيبة السكانية لا يقتصر على جانب واحد بعينة ، بل يشمل جوانب متعددة تتعلق بنمو السكان وتوزيعهم وخصائصهم وقلة مشاركة المرأة ما يشكل تهديدا لجهود التنمية ويفضي إلى تعثرها على المدى البعيد . ويتوقف اصلاح هذا الخلل في الوضع السكاني على تبني استراتيجية سكانية تسعى إلى تعديل التركيبة السكانية لصالح مواطني دول المجلس بما يحقق توازنا بين السكان والموارد المتاحة.
وكما يقول احد الاقتصاديين في البحرين إن الواقع السكاني الراهن بدول المجلس يحاكي المرحلة الثانية من مراحل نظذرية التحول الديموغرافي التي تتصف بارتفاع معدلات الخصوبة والانخفاض المستمر في معدلات الوفيات بين المواطنين بفضل التقدم الصحي المضطرد. كما أن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها دول المجلس، مثل التوسع في التعليم للذكور والاناث وتأخر سن الزواج، ودخول المرأة الخليجية سوق العمل، وتحسين مستويات المعيشة ستؤثر على نمط النمو السكاني لمواطني دول المجلس. وهذا يتطلب رسم سياسات سكانية ملائمة للتعامل مع هذه التغيرات انطلاقا من الأهداف المحددة للاستراتيجية السكانية.
وهكذا يجب النظر الى مشكلة العمالة الوافدة وكيفية التعامل معها في إطار كلي لتصحيح سياسات التنمية والتعامل مع جوانبها الاجتماعية والثقافية والقيمية.
إذا نظرنا إلى سمات الخلل السكاني في دول المجلس، فنلاحظ أنه يتمثل أولا في نسبة العمالة الأجنبية الكبيرة، إذ يقدر حجم العمالة الإجمالية في مختلف القطاعات الاقتصادية في دول المجلس بنحو 12 مليونا نصيب العمالة الوطنية منها 33 في المئة فقط. كما ان كلفة العمالة الوافدة بالنسبة إلى الاقتصاد تتجاوز مجرد الأجور التي تتقاضها، وتتمثل الكلفة الإضافية بطريقة مباشرة في السلع والخدمات الاجتماعية التي يتم توفيرها من دون مقابل، وبأسعار مدعومة بنسب مرتفعة من قبل الحكومات، مثل: الصحة ، التعليم، خدمات المياه والكهرباء وغيرها من الخدمات. وإذا اضفنا إلى ذلك كلفة التحويلات المالية الكبيرة "الرسمية وغير الرسمية" إلى الخارج فإن بعض المصادر تقدر أن العمالة الأجنبية تكلف دول المجلس سنويا نحو 100 مليار دولار. كما يلاحظ أيضا أن ارتفاع نسبة العمالة الوافدة وخصوصا شبه الماهرة وذات الإنتاجية المنخفضة والأجور المتدنية نسبيا أدى إلى استخدام تقنيات ذات كثافة عمالية.
وعلى رغم عدم وجود إحصاءات رسمية عن معدلات البطالة في دول المجلس، فان التقديرات غير الرسمية تشير إلى ان معدل البطالة بلغ نحو 4,4 في المئة العام ،95 الا أنه ارتفع في الوقت الحالي ليتراوح ما بين 6 و16 في المئة. ان مساهمة العمالة الوطنية في قطاع الصناعة التحويلية هي أقل من نصف المتوسط الإجمالي، إذ تقدر بنحو 12 في المئة. ولم تتجاوز نسبة العمالة الوطنية في هذا القطاع 1 في المئة من أجمالي العمالة في الدول الست. كما ان هناك نقصا كبيرا في أعداد العمالة المواطنة في مجالات الإدارة والهندسة الميكانيكية والكيمياء وتقنية المعلومات والعمالة الفنية إضافة إلى الوظائف المساندة.
على صعيد آخر يلاحظ أن هناك ضعفا في قنوات الاتصال بين المؤسسة التعليمية والتدريبية وسوق العمل ما أسهم في عدم مواكبة أو ملاءمة مخرجات التعليم مع متطلبات السوق وتزايد حدة مشكلة البطالة. كما ان مفاهيم التعليم والتدريب في دول مجلس التعاون هي غير قادرة على استيعاب المتغيرات الراهنة والمستقبلية والتي تفرضها طبيعة التحديات المحلية والإقليمية والدولية. إن عملية التوطين تلقي بمعظم تبعاتها على القطاع الخاص بسبب استيعابه الجانب الأكبر من العمالة الوافدة واعتماده عليها، وتشير بعض التقديرات إلى أن نسبة الأيدي العاملة الأجنبية في القطاع الخاص تبلغ 87 في المئة في السعودية للمؤسسات التي توظف 10 عمال فأكثر و95 في المئة في قطر، و80 في المئة في البحرين و96 في المئة في الكويت.
ان تحدي النمو السكاني والتنمية البشرية سيضاف إليه بعد أكثر تعقيدا إذا ما تناولنا موضوع الاقتصاد الجديد ومناداة قادة دول المجلس بدراسة سبل الولوج إلى هذا الاقتصاد للاستفادة مما يوفره من فرص هائلة للنمو والتطور. فمن الواضح اذن ان التحديات التي نواجهها بهذا الصدد هي تحديات مضاعفة ومعقدة وبحاجة الى جهود غير اعتيادية وأساليب غير تقليدية. إذ هل نحن تمكنا من تحديد هوية اقتصاداتنا لعصر العولمة وأي القطاعات التي سنعتمد عليها بشكل أكبر وكيف ستكون تأثيرات الانفتاح الاقتصادي على إعادة تكييف دور وحجم كل قطاع من القطاعات وهل هناك استراتيجيات تنموية بديلة وهل وضعت الخطط والبرامج وهل تم التخطيط لهوية التنمية البشرية وبرامجها واستراتيجياتها وما الدور المتوقع الذي ستظل تلعبه العمالة الأجنبية في استراتيجيات التنمية الجديدة؟ انها جميعها أسئلة افتراضية تتطلب الإجابة عليها بصورة أو بأخرى حتى نتمكن من الارتقاء الى مستوى التحدي الذي تواجهه التنمية البشرية في دولنا ككل، وليس فقط مواجهة مخاطر العمالة الوافدة
العدد 848 - الجمعة 31 ديسمبر 2004م الموافق 19 ذي القعدة 1425هـ