تحتفل المملكة المغربية في (30 يوليو/ تموز الجاري) بالذكرى الحادية عشرة لتربع صاحب الجلالة الملك محمد السادس على عرش أسلافه الميامين، وهي مناسبة يتجدد فيها كل سنة عهد الوفاء والولاء من شعب وفي إلى ملك ملهم يجسد بحق آماله وتطلعاته في التقدم والنماء والعيش الكريم.
لقد شهدت المغرب منذ تولي صاحب الجلالة العرش تحولات نوعية مهمة شملت الجوانب السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تروم جميعها بناء مغرب ديمقراطي، حداثي، متقدم ومتضامن. ولبلوغ هذه الغاية، استهل صاحب الجلالة حكمه بتعميق مسلسل الانفتاح السياسي الذي بدأه والده الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، حيث جدد ثقته بحكومة التناوب التي كان يرأسها الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (المعارض سابقا) عبدالرحمن اليوسفي، وسمح بعودة المعارض البارز ابراهيم السرفاتي ورفع الإقامة الجبرية عن الشيخ عبدالسلام ياسين.
وذهبت الإرادة الإصلاحية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس في هذا الصدد إلى مدى غير مسبوق في العالمين العربي والإسلامي، إذ فتح ملف انتهاكات حقوق الإنسان من 1956 لغاية 1999، للكشف بكل جرأة ومسئولية عن جميع الخروقات التي تمت في تلك الفترة. وأنشأ لهذه الغاية هيئة الإنصاف والمصالحة التي أسندت رئاستها إلى أحد المعتقلين السياسيين السابقين إدريس بنزكري.
هذه الخطوة الشجاعة التي أقدم عليها صاحب الجلالة الملك محمد السادس، خلفت ارتياحا كبيرا على المستوى الداخلي، ولاقت ترحيبا واسعا على المستوى الدولي. إلا أن غاية هذا المشروع ومنطلقه لم يكن البحث عن ثناء دولي، سواء من قبل الدول أو المنظمات الحقوقية، بل كان الهدف أولا وقبل كل شيء يروم تحقيق المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي وتجاوزها حتى لا يبقى المغرب أسير صراعات سياسية عقيمة انتفت الظروف التي أحاطت بنشأتها وتطورها، ومن ثم ينصرف لمواجهة التحديات التي تواجه مغرب القرن 21.
في ظل هذا الانفتاح السياسي الكبير، ازدهرت حرية الكلمة في المغرب وبرزت صحافة مستقلة قوية، باتت تخوض بجرأة في كل القضايا التي تهم الشأن العام، حتى تلك كانت تعتبر في الماضي القريب من المحرمات والمسكوت عنها.
أما على المستوى الاجتماعي، فقد شكل إقرار مدونة الأسرة سنة 2004 ثورة قيمية جبارة استمدت شرعيتها وحظيت بالإجماع لأنها تمت من داخل المنظومة الإسلامية وفي إطار احترام ثوابتها المعلومة، لكن بنظرة اجتهادية متحررة رامت تأسيس علاقة سليمة داخل الأسرة، قوامها الندية والاحترام المتبادل وحفظ حقوق الجميع (المرأة، والرجل، والأطفال).
وإذا كانت المدونة هدفت إلى حماية وتحصين النواة الأساسية للمجتمع ألا وهي الأسرة، إلا أنها مثلت كذلك نقلة نوعية كبرى في الوضعية الحقوقية للمرأة المغربية، التي تطورت مكانتها في المجتمع بشكل إيجابي وتدريجي منذ فجر الاستقلال بفضل الخطوات الجريئة التي اتخذها في حينه صاحب الجلالة الملك محمد الخامس، خلد في الصالحات ذكره، مروراً بباني المغرب الحديث صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني، رحمه الله، وصولا إلى صاحب الجلالة الملك محمد السادس. وهكذا تقلدت المرأة جميع الوظائف (أستاذة، طبيبة، نائب برلمانية، وزيرة، قاضية، سفيرة، ربانة طائرة... إلخ)، حتى لم يعد هناك تقريباً وظيفة أو منصب حكراً على الرجال في المغرب.
ودعماً لهذا الاختيار الحضاري الراقي، جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أراد لها صاحب الجلالة أن تساعد على القضاء على الهشاشة والفقر والعوز، لتحقيق العيش الكريم لفئة كبيرة من المجتمع المغربي خانتها الحيلة لترمي بها ضراوة الحياة في غياهب التهميش والهشاشة والفقر. ورافق ذلك مشروع كبير وطموح سمي بالسكن الاجتماعي لتدارك النقص الذي عانى منه المغرب في هذا المجال.
وعلى المستوى الاقتصادي، شهد العقد الأخير تطوراً كبيراً في التشريعات والقوانين التي تهدف إلى تسهيل وتشجيع الاستثمار، كما تكثفت الجهود من أجل تأهيل البنية التحتية التي تعتبر شرطاً لازماً لا مناص منه لتحقيق التنمية الاقتصادية، وفي هذا المضمار تكفي الإشارة إلى أن شبكة الطرق السيارة قفزت من 100 كلم سنة 1999 إلى نحو 1300 كلم اليوم. ومثال آخر على المجهود الجبّار الذي بذل في هذا السياق هو تشييد ميناء طنجة المتوسطي الذي أصبح أكبر ميناء في القارة الإفريقية.
ويحرص صاحب الجلالة الملك محمد السادس على زيارة مختلف ربوع المملكة للوقوف شخصياً على مختلف مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية وعملية تأهيل البنية التحتية، والحرص على متابعة مختلف مراحل تنفيذها. وأولى في هذا الصدد عناية خاصة للمناطق التي لم تنل نصيبها في السابق من التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
هذا يقودنا للحديث عن أحد «الأوراش» الإصلاحية الهيكلية الكبرى التي تم تدشينها هذه السنة، ألا وهو ورش الجهوية الموسعة، حيث قام صاحب الجلالة بتشكيل لجنة استشارية لهذا الأمر، ضمت نخبة من الأساتذة الجامعيين والأطر السامية في الإدارة المغربية، وأوعز إليها بانتهاج مقاربة تشاركية من خلال توسيع دائرة التشاور لتضم مختلف الهيئات والفعاليات المعنية والمؤهلة.
وينطلق مشروع الجهوية الموسعة من واقع تنوع المكونات الثقافية واللغوية والإثنية للمملكة المغربية، فضلاً عن اختلاف المؤهلات الاقتصادية التي تزخر بها كل منطقة على حدة. فهذا المشروع يتضمن بعداً ديمقراطياً أساسياً يروم احترام الخصوصيات الجهوية، وكذا ترسيخ الديمقراطية المحلية عبر المساهمة في انبثاق مؤسسات منتخبة تقودها نخب محلية قادرة على النهوض بالتنمية المندمجة، هذا فضلاً عن كونه سيساهم في تطوير وتحديث هياكل الدولة المغربية.
وقد حدد جلالة الملك أربعة أسس يجب أن تقوم عليها الجهوية الموسعة في المغرب وهي: أولا: التشبث بمقدسات الأمة وثوابتها، وخاصة وحدة الدولة والوطن والتراب. ثانياً: الالتزام بمبدأ التضامن الذي من شأنه تجسيد التكامل والتلاحم بين المناطق، في مغرب موحد. ثالثاً: اعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات، ورابعاً: انتهاج اللاتمركز الواسع.
وأوضح صاحب الجلالة في الخطاب الذي وجهه للأمة بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية الموسعة أن الأقاليم الجنوبية المسترجعة ستكون في صدارة الجهوية المتقدمة. وأضاف جلالته في هذا السياق أن «المغرب لا يمكن أن يبقى مكتوف اليدين، أمام عرقلة خصوم وحدتنا الترابية، للمسار الأممي لإيجاد حل سياسي وتوافقي، للنزاع المفتعل حولها، على أساس مبادرتنا للحكم الذاتي، الخاصة بالصحراء المغربية».
وقد استقبلت المبادرة المغربية بتجاوب واستحسان من العديد من الدول والهيئات الفاعلة في المنتظم الدولي، التي باتت مقتنعة بصدقية الموقف المغربي وتوازنه، في نهج حل سياسي تفاوضي ونهائي لهذه القضية. وتظل يد المغرب ممدودة لجيرانه ولجميع الأطراف المعنية من أجل طي صفحة هذا النزاع المفتعل الذي يعتبر عقبة أمام تحقيق حلم شعوب المنطقة في الاتحاد والاندماج الإقليمي.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أشير إلى أن العهد الزاهر لصاحب الجلالة شهد تطوراً ملموساً للعلاقات الثنائية المغربية البحرينية القائمة على تواصل التشاور السياسي والتنسيق المستمر والدعم المتبادل في المحافل الإقليمية والدولية، والتطابق في وجهات النظر حيال القضايا العربية والإسلامية والدولية. ويعود الفضل في ذلك بالدرجة الأولى لتلك الروابط الأخوية الوثيقة والصادقة التي تجمع صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بأخيه صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، حفظه الله ورعاه. وأستطيع أن أؤكد، من منطلق التجربة والمعايشة اليومية، أن العلاقات الأخوية الطيبة القائمة بين البلدين الشقيقين تجد ترجمتها في كرم الضيافة وحسن الوفادة التي يحظى بها أبناء الجالية المغربية المقيمين بين أهلهم وفي بلدهم الثاني البحرين، الأمر الذي شجع، على مدى السنوات الأخيرة، العديد من الكفاءات العليا المغربية أن تختار العمل في المؤسسات الاقتصادية والمالية والسياحية والشركات العالمية المستقرة في مملكة البحرين الشقيقة.
وصفوة القول، إن العهد الميمون لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حافل بالإنجازات على مختلف المستويات، لا يسع مقال صحافي مهما طال أن يستعرضها جميعها مع إبراز فلسفتها ومراميها البعيدة، وحسبنا هنا أن نؤكد أن السمات الأساسية التي تميز عهد صاحب الجلالة، كما يشهد بذلك العديد من المراقبين الدوليين، هو الانفتاح والحداثة والتضامن، نضيف إليها كذلك سعياً دؤوباً وقدرة مبتكرة على تدبير أوجه التنوع الموجود في المملكة المغربية، والعمل على تحويلها بحكمة ونفاذ بصيرة إلى عناصر قوة وغنى لهذا البلد الطيب الأمين، الذي نسأل الله عز وجل أن يبقيه دائماً آمناً ومستقراً ويرزقه من الطيبات
العدد 2885 - الجمعة 30 يوليو 2010م الموافق 17 شعبان 1431هـ
أستغفر الله
"الله لا اله الا هو رب العرش العظيم"
الله لا اله الا هو له الأسماء الحسنى فادعوه بها
سبحانك ربنا رب العرش العظيم سبحانك جل جلالك له الأسماء الحسنى فادعوه بها الله يهدي الجميع بس