بغياب كامل أحمد الأسعد عن المشهد اللبناني يسدل الستار على الحقبة الأخيرة من «الأرستقراطية» الشيعية (العائلات السياسية) التي لعبت دوراً في ترتيب الشراكة الطائفية مع الأطياف الأخرى منذ الاستقلال في الأربعينات إلى بدء اندلاع الحروب الأهلية – الإقليمية في سبعينات القرن الماضي.
رحيل الأسعد يؤرخ إلى تحولات طرأت على منظومة العلاقات الأهلية (الطوائفية) وتأثيرها السياسي على المتغيرات البنيوية التي تتحرك في إطار سلطة الدولة. فما حصل للشيعة خلال أربعة عقود من تعديلات ديموغرافية (سكانية) واجتماعية واقتصادية وبنيوية وعلائقية وتمثيلية أدت إلى إضعاف العائلات السياسية وتشكيل بدائل عنها لا يقتصر على طائفة واحدة. كل الطوائف اللبنانية دخلت في تجارب مشابهة أو متقاربة أدت في مطافها السياسي إلى تكوين بدائل داخلية تأخذ دور العائلات (الارستقراطية) في تمثيل الجماعة الأهلية في الحكم. والشيعة في المضمار المذكور تأخرت كطائفة في اللحاق بقطار التحولات إلا أنها في نهاية السباق نجحت في دخول الجولات وتسجيل نقاط مهمة في الحساب العام.
المسألة في النهاية تاريخية حتى لو اختلفت أشكال التحول بين طائفة وأخرى. وما حصل عند الطائفة الشيعية حصل بأطر متنوعة عند الموارنة والكاثوليك والأرثوذكس والدروز وأخيراً السنة. والمشترك بين كل الطوائف اللبنانية كان التوافق على حصول متغيرات داخلية في كل طرف أدت في النهاية إلى ترحيل «الارستقراطية» السياسية (العائلات) عن الحكم وتكوين بدائل محلية تمثل الطائفة في معادلة النظام ونسبة توزيع الحصص على أجنحته الأهلية.
لعبت طبيعة الدولة (المرنة) في لبنان دورها في أعطاء فرصة لنمو قوى بديلة من داخل كل طائفة لتقوم بمهمة التمثيل السياسي عن الجماعة الأهلية في السلطة. وبسبب مرونة الدولة وابتعادها عن ممارسة التسلط والاستبداد والقهر نجحت الطوائف في تجديد قواها من الداخل ومن دون تدخل ما أدى إلى توليد طاقات أخذت تصعد سلماً أو عنوة لتأخذ مكان العائلات السياسية (الارستقراطية) التي انفردت وتوزعت المناصب خلال فترات متقطعة سواء في عهد الانتداب الفرنسي أو في حقبة الاستقلال التي انتهت بانفجار أهلي – إقليمي رهيب لايزال يتفاعل حتى الآن.
أسرة الأسعد هي واحدة من مئة عائلة سياسية لبنانية تقريباً كان لها حظوة تقاسم السلطة على مدار عقود بدأت في ثلاثينات القرن الماضي وأغلق ملفها رسمياً بعد الاجتياح الإسرائيلي واحتلال لبنان في العام 1982. وإذا كانت عائلة الأسعد لاتزال تكافح وتقاوم لاسترداد مواقعها ودورها في الجنوب اللبناني فإن هناك الكثير من بقايا ورموز العائلات السياسية من مختلف الطوائف تواصل السباحة ضد الزمن أو بالتكيف مع تحولاته حتى تحافظ على مكانها الخاص في معادلة انكسرت صورتها الكلاسيكية وتحطمت بالحروب الأهلية والإقليمية على ساحة مفتوحة لكل الاحتمالات.
الحروب اللبنانية الممتدة والعابرة للحدود لم تكن السبب الأول أو الوحيد في انزواء الأرستقراطية السياسية وتحجيم دور العائلات الاستقلالية وإنما كانت العامل الأخير (المباشر) الذي سدد ضربة موجعة لحقبة شهدت تحولات على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية والإقليمية أسست مداوره مجموعة قواعد أعطت فرصة للقوى الصاعدة للنمو والانقلاب الداخلي على الشريحة التي استقرت في مناصب السلطة وإدارات الدولة. وما حصل في الطائفة الشيعية كان مجرد تكرار في لون مختلف عن ما وقع من تحولات في الطوائف الأخرى.
حركة أمل وحزب الله والطبقة الوسطى النامية ليست ظاهرة خاصة تنفرد الطائفة الشيعية بها وإنما هناك ما يحاكيها في الطوائف الأخرى. حزب الكتائب عند الموارنة لعب منذ ثلاثينات القرن الماضي إلى اندلاع الاقتتال الأهلي ذلك الوعاء التنظيمي الحديث في الطائفة ما أهله لاستقبال كل العائلات المتضررة من الأرستقراطية المارونية وجعله الطرف السياسي القادر على استقطاب الطبقة الوسطى النامية على ضفاف العائلات المتمثلة في السلطة (مجلس النواب، الوزارات، السفراء والقناصل والهيئات الدبلوماسية) في أقضية المتن الشمالي وكسروان وجبيل والبترون والكورة وبشري وزغرتا وزحلة وصولاً إلى الأطراف (عكار وجزين ومرجعيون ودير الأحمر).
الموارنة كانت الطائفة الأقوى في تلك الفترة وكانت الأولى في قيادة الدولة والأكثر انفتاحاً على الغرب وبالتالي الأكثر استعداداً لاستقبال تحولات «حداثة» أخذت تعصف بسلطة العائلات السياسية. وبهذا المعنى التاريخي يشكل حزب الكتائب قوة انقلابية ذاتية في داخل الطائفة لأنه من جانب تعايش مع السلطة ومن جانب آخر تكيف مع المتغيرات واستوعب تطلعات الطبقة المارونية الوسطى الطامحة للمشاركة وتقاسم المناصب مع العائلات السياسية. وبسبب هذا الموقع نجح حزب الكتائب في تكوين شعبية نافذة في المناطق المسيحية (المارونية تحديداً) المهمشة أو المغبونة ما أعطاه قوة سياسية (تصويتية في الانتخابات) تنافس أو تشارك اللوائح في تقاسم أو توزيع المناصب النيابية والوزارية.
الأمر نفسه حصل بشكل مختلف ومتأخر في الطائفة الشيعية التي شهدت تحولات داخلية ساهمت في الحد من نفوذ العائلات السياسية ما أعطى فرصة للقوى الهامشية والمغبونة والمهمشة في النمو والتقدم الاجتماعي والعلمي حتى توصلت إلى كسر هيمنة الأرستقراطية الشيعية وإبعادها رويداً عن السلطة. وصاحب الفضل في إشعال شرارة التحول يعود إلى الإمام موسى الصدر وحركته الشعبية التي أخذت بالامتداد في الجنوب والبقاع في ستينات القرن الماضي.
حركة الصدر تختلف في ديناميتها الداخلية عن الكتائب ولكنها في مضمونها التاريخي تقاربها في آلياتها لكونها شكلت ذلك الوعاء الحديث (حركة أمل) الذي يؤطر تلك القوى النامية والصاعدة من داخل العائلات الشيعية الصغيرة والمهمشة والهامشية والمغبونة في المناطق الطرفية من الجمهورية اللبنانية. والاختلاف بين حركة الصدر الشعبية وحزب الكتائب التنظيمية يعود إلى أن الطائفة المارونية لم تكن تعاني من التمييز العام للسلطة اللبنانية بينما لحق بالطائفة الشيعية الكثير من التهميش والحرمان. لذلك كانت حركة الصدر مزدوجة الأهداف فهي من جانب تطالب السلطة بالانفتاح والمساواة وعدم التمييز وتضغط من جانب آخر على «الأرستقراطية» الشيعية لكسر الحلقة وفتح قنوات لدخول القوى الشابة والطبقة الوسطى في إدارات الدولة.
الحالة متشابهة في قانونها التاريخي العام ولكنها متخالفة في تعاملها مع مفهوم الدولة ودورها وموقعها في ضبط إيقاع التطور بين السلطة وطموح الطائفة. حزب الكتائب اقتصرت معركته الداخلية على اختراق حصون الأرستقراطية المارونية لكون الطائفة تحتل الموقع الأول في قيادة الدولة. الإمام الصدر كانت معركته مفتوحة على الداخل الشيعي (العائلات السياسية في الجنوب والبقاع) وضد السلطة التي تميز بين الطوائف ما أعطى حركة أمل صفة مزدوجة تجمع بين المسالمة لتعديل التوازن في إطار الطائفة والعنف بوصفه الإطار السياسي الذي انجرفت إليه كل الجماعات الأهلية في العام 1975. وبهذا المعنى التاريخي يمكن أن يفهم لماذا قاد حزب الكتائب الطائفة المارونية بوصفه قوة مسلحة ومنظمة في المواجهة العامة على الساحة اللبنانية مقابل أن تلعب الطائفة الشيعية الدور الأساس في الرد بوصفها تشكل الخزان الجماهيري المسلح الذي كانت تعتمد عليه معظم ميليشيات الأحزاب اليسارية والوطنية اللبنانية وبعض فصائل المقاومة الفلسطينية.
قطبا التصادم الميداني في المعارك الأهلية الممتدة إقليمياً تمثلا أساساً منذ اندلاع الصراع في تلك المواجهة المتلونة الوجوه بين قوتين جاذبتين، ولكنها كانت بين طرف يدافع عن امتيازات السلطة (حزب الكتائب) وطرف يدافع عن حقوق الطوائف المهمشة والمحرومة من خلال انخراطه في المجموعات الحزبية اللبنانية والفلسطينية المختلفة. واستمرت الحال إلى أن غاب الإمام الصدر خلال زيارة كان يقوم بها إلى ليبيا واغتيال رئيس الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط واجتياح «إسرائيل» للجنوب في العام 1978 واندلاع الثورة الإسلامية في إيران وسقوط الشاه في 1979.
هذه المتغيرات أنتجت آليات دخلت على النسيج الأهلي اللبناني ما كان لها أثرها في تعديل التعديل في داخل الطائفتين المارونية والشيعية. فالحرب الدائمة شجعت الكتائب على السعي لأخذ زمام الحكم (رئاسة الجمهورية) بعد أن تطورت الميليشيات إلى إطار تنظيمي شاب (القوات اللبنانية) يقوده بشير الجميل. تصادف الأمر مع الاحتلال الإسرائيلي لبلاد الأرز في العام 1982 الذي أسفر عن انتخاب الجميل رئيساً بمساعدة رئيس المجلس النيابي كامل الأسعد وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت والبدء في عمليات المقاومة الأولى ضد المحتل وظهور حزب الله على الساحة.
نهاية العائلات السياسية اللبنانية (الأرستقراطية) تقطعت على مراحل واختلفت بين طائفة وأخرى. عند الموارنة كانت البداية وظهرت طبيعية ومسالمة وتطورت خطوة خطوة إلى أن انتهت عنيفة ودموية في زغرتا وكسروان والمتن الشمالي. عند الدروز بدأت تسووية بسبب انتباه كمال جنبلاط المبكر للتحولات فسارع إلى إنشاء الحزب التقدمي الاشتراكي في نهاية أربعينات القرن الماضي ليقود بنفسه نمو الطبقة الوسطى المتشكلة من العائلات الدرزية المهمشة ليكسر بذلك التقاسم التقليدي (ثنائية جنبلاطية ويزبكية) ويعيد تشكيل مناطق نفوذ ساهمت في المحافظة على الشوكة وأعطت فرصة للاستمرار في توريث الزعامة من دون مشكلة داخلية. عند السنّة تأخر التطور الذاتي للطائفة بسبب توزع العصبية على عائلات سياسية مدينية منتشرة جغرافياً ومتباعدة بين مراكز القوى المتمثلة في طرابلس وبيروت وصيدا. ولكن قانون التحول (الانقلاب الذاتي) تصادف أيضاً بعد الاحتلال الإسرائيلي وعودة رجل الأعمال آنذاك رفيق الحريري من السعودية ومباشرته العمل على إعادة الإعمار وتعليم جيل في المعاهد والجامعات على نفقته الخاصة. وأدى صعود قوة الطبقة الوسطى في الطائفة السنية وأطرافها الهامشية والمهمشة إلى توليد ديناميات توحيدية جمعت الأطراف في إطار تنظيمي حديث (تيار المستقبل) أخذ يقوده نجله سعد الحريري بعد جريمة الاغتيال في العام 2005.
غياب الأسعد عن المشهد اللبناني يمثل إشارة سياسية واضحة عن نهاية حقبة «الأرستقراطية» التي تمثلت بمرحلة العائلات وتؤكد استحالة العودة إلى طور تجاوزه الزمن، لأن ما حصل من تحولات على مستوى بنية السلطة وعلائقها ترافق مع متغيرات انقلابية طرأت في داخل كل طائفة. فالشيعة الآن يقودها حزب الله. الموارنة يقودها الكتائب والقوات وتيار الجنرال عون. الدروز (جنبلاط وحزبه الاشتراكي). والسنّة بدأت بالدخول كطائفة موحدة في إطار معادلة «حداثية» يقودها تيار المستقبل الذي تحول إلى حزب سياسي قبل ثلاثة أيام.
الكل في هذا السياق التاريخي ساهم في كسر الأرستقراطية (العائلات السياسية) في مناطق طائفته ونجح في إبعادها رويداً عن السلطة في لحظة كانت تشهد الساحة فترة غياب للدولة (المرنة) ودخول قوي للأطراف الهامشية اللبنانية وقوى الجوار والأقاليم لتأخذ دورها الطبيعي في لعبة تبادل المواقع وتعبئة الفراغ. فالصورة الأرستقراطية السابقة تحطمت بفعل التحول الزمني والمتغيرات السريعة التي أحدثتها حروب الأهل والأقاليم فتشكل المشهد الراهن الذي تألّف من أجزاء متنافرة ولكنها متوافقة على تكوين حالات متقاربة في الخطاب الذاتي الخاص. المسألة تاريخية في نهاية المطاف والواقع ينتج آليات داخلية أقوى من الايديولوجيا والخطاب العام. الآن لم يعد مجال تداول السلطة يقتصر في بلاد الأرز على لائحة العائلات السياسية (أرستقراطية الطوائف) ويرجح أن هناك صعوبة بالارتداد إلى تلك المرحلة وذلك لأسباب كثيرة منها التطور وما ينتجه من تحولات عادية وقسرية، ومنها أن لبنان انتهى من استكمال مشهد الانتقال من طور العائلة - الطائفة إلى طور الحزب - الطائفة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2882 - الثلثاء 27 يوليو 2010م الموافق 14 شعبان 1431هـ
مقال رااااائع
هذه من أروع المقالات التي قرأتها لك يا أستاذ وليد..... نتمنى ان تستكمل الحلقة لتضعنا في الصورة اللبنانية من الداخل. ولك كل الشكر والتقدير.
عبد علي عباس البصري
شكرا وليد نويهض على هذا الاستقراء الممتاز (ورب البيت ادرى بالذي فيه ) بس لو كان هناك بفصيل في حلقات عن الحاله اللبنانيه منذ الاستقلال وحتى موسى الصدر وحتى اليوم ؟ لكان له الفائده الممتازره ، وأسباب الحرب الاهليه وفي نهايه السبعينات والاجتياح الاسرائيلي وأثره على العلاقات اللبنانيه اللبنايه.
وألف شكرا لك وليد .