العدد 2881 - الإثنين 26 يوليو 2010م الموافق 13 شعبان 1431هـ

في مقاومة الكراهية بالاحترام

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

الاحترام هو خلق مجتمع المساواة؛ لأن الاحترام، كما عرفنا منذ أرسطو، لا يكون إلا بين متساوين وعلى نحو تبادلي. وإذا كان أرسطو قد لاحظ أن هذا الخلق لم يُسم باسم – والاحترام، بالمناسبة، مفردة لن تجد لها ذكراً في القواميس العربية القديمة - فلأن البشرية لم تعرف مجتمع المساواة حتى تضع له اسماً إلا في العصر الحديث. كما أن الاحترام يحمينا من كل المجازفات الخطرة التي تتهدّدنا حين نضع وجودنا تحت رحمة علاقاتنا القريبة جداً، بحيث ينهار وجودنا حين نفقد حبنا أو تقديرنا الذي نلتمسه من الآخرين القريبين منا على نحو وثيق. وقد تنبّه فرويد، بعد روسو، إلى أن للحب قدرة فذّة على أن يهبنا سعادة ولذة آسرتين، إلا أن الحب طريق غير مضمون؛ لأنه قد يمنحنا السعادة، وهو يفعل ذلك بالفعل وعلى نحو باهر، إلا أنه قد يكون سبب تعاستنا، بل إننا «لا نعاني من تعاسة مطلقة لا شفاء لها مثلما نعاني حين نفقد الشخص المحبوب أو نفقد حبّه» (قلق في الحضارة، ص31). وهذه واحدة من المفارقات الإنسانية العجيبة، فـ «لا توجد سعادة خارج الحب، والحب فانٍ» والحبيب لن يدوم لنا لا هو ولا حبه. إلا أن البشر ينخرطون في علاقات الحب دون أن يفكروا بهذه المفارقة، ولو فعلوا ذلك لانقلب الحب إلى شقاء وهوس مَرَضي لا شفاء له. بيد أن عدم التفكير بهذه المفارقة لن يدفع الشقاء عنا بصورة نهائية؛ لأن كل ما يفعله أنه يؤخّر شقاءنا قليلاً لنعيش سعادتنا الهانئة مع من نحبّ ولو للحظات نتوهم، فيها، أن عجلة الزمن وتقلب الأحوال قد توقّفت عن الدوران. وهي ذاتها الحيلة التي نتحصّن بها لندفع عن أنفسنا إحساسنا الشقي والمشلّ والعدمي بحقيقة أننا سائرون إلى موتنا المحتم عاجلاً أو آجلاً.

وعلى خلاف الحب، فإن الاحترام لا ينطوي على هذه المفارقة؛ لأنه خلق المجال العام لا الخصوصي أو الحميمي. ومن هنا يمتاز الاحترام بأنه ذو طابع غير شخصي لأنه لا يقوم على القرب الشديد والحميمي كما في الحب، وإذا حصل أن طلب الأب من ابنه أو الزوج من زوجته بعض الاحترام فإن هذا قد يكون من باب التجوّز في استخدام كلمة الاحترام في غير محلها. أما إذا كنا نطلب الاحترام حقاً فإن هذا مؤشر على أن حياتنا الخاصة أصبحت على المحك لأنها ستكون، عندئذٍ، حياة خاصة لكنها منزوعة من طابعها الشخصي والحميمي الذي يميّز ويحفظ الحيوات الخاصة.

يتطلب الاحترام قرباً متوسطاً من الآخرين، ويؤدي هذا النوع من القرب وظيفتين أساسيتين: 1 - فهو، من جهة، يقوم بإشباع حاجتنا إلى الآخرين وإلى القرب منهم والعيش معهم، كما أنه يشبع حاجتنا إلى مراعاتهم وأخذهم بعين الاهتمام العام، وهذا يكفي لكبح نزعتنا العدوانية التي تدفعنا للتعبير عن كراهية تستهدف الآخرين بالإهانة والتحقير. وهذا مطلب متبادل فبقدر ما نحتاج، نحن، إلى اهتمام الآخرين وعنايتهم ومراعاتهم فإن هؤلاء يحتاجون، كذلك، إلى اهتمامنا وعنايتنا ومراعاتنا. 2 - كما يحفظ هذا القرب المتوسّط، من جهة أخرى، وجودنا وتوازننا من الانهيار في حال تلاشى هذا القرب وانتفى؛ لأنه، أساساً، ليس قرباً شخصياً ووثيقاً ومصيرياً بحيث نرهن وجودنا بدوامه في شكل تبعية لحكم الآخرين وتقديرهم واعترافهم.

ربما لم يكن احترام الإنسان سوى استخدام مستحدث لمفهوم الكرامة البشرية الذي قام عليه فكر التنوير في الغرب، والذي اتصلت جذوره بالأديان الكبرى التي تأسست عقيدتها على فكرة أن الإنسان هو مخلوق الله، وأنه المخلوق الوحيد الذي خصّه الله بالتكريم. وربما، كذلك، لم يجتمع فكر التنوير مع الأديان الكبرى في فكرة أخرى بقدر اجتماعه معها في فكرة الكرامة البشرية. الأمر الذي ينبغي أن يمنح لهذه الكرامة قوة لا مثيل لها بحكم أنها معززة بقوة الأديان واعتقاداتها وتشريعاتها التي تحرّم قتل «النفس المحترمة» وتعذيبها والمثلة بها وإهانتها وتحقيرها والسخرية منها، وبقوة فكر التنوير ومؤسساته وقوانينه. وبالمعنى هذا، فلا يمكن أن تفهم الكراهيات التي تهين البشر وتحقّرهم في الصميم إلا على أنها حط من كرامة الإنسان أي من جوهر إنسانيته. وهذا فعل يضع هذه الكراهيات (وأصحابها كذلك) في مواجهة مباشرة ومزدوجة: 1 - مع الأديان لأنها، بذلك، ترتكب خطيئة أخلاقية ودينية تتمثّل في إهانة «النفس المحترمة» التي كرّمها الله. و2 - مع فكر التنوير لأن الكراهيات ستعتبر، عندئذٍ، جرماً يستحق العقاب، وانتهاكاً لا إنسانياً ولا يتوافق مع روح التنوير وأخلاقياته القائمة على مبدأ أن البشر متساوون في الكرامة، وأنهم جميعاً يتمتعون بحقوق متساوية، وأن من حقهم أن يُعاملوا على أنهم غايات لا وسائل، وعلى أنهم ذوات جديرة بالاحترام بحد ذاتها.

ولكن، هل يمكن للاحترام أن يكبح الكراهية حقاً؟ سبق لسبينوزا أن دافع عن فكرة أن الانفعال لا يمكن أن يكبحه سوى «انفعال مناقض له وأشد منه»، فلا يكبح الكراهية إلا الحب القوي، إلا أن هذا قد يكون صحيحاً في عالم السيكولوجيا والانفعالات الذاتية في الحياة الخاصة، لكنه يكاد يكون بلا معنى حين يتعلّق الأمر بكيفية التعامل مع الكراهيات الجماعية في الحياة العامة وداخل الدولة وفي المجال العام. وقد تنبّه سبينوزا نفسه، حين تعرّض لفكرة الدولة والعقد الاجتماعي، إلى أن الانفعال الذي يمكن أن يقهر الكراهية ونزعة الإساءة إلى الآخرين في الحياة العامة وداخل الدولة إنما هو الخوف، الخوف الذي يغرسه القانون والدولة في نفوس الناس بحيث يضطر هؤلاء إلى تجنّب إيذاء الآخرين والإساءة إليهم ليس بدافع الحب، ولا بسلطان من العقل؛ لأن العقل، كما يقول سبينوزا «عاجز عن قهر الانفعالات»، وإنما بقوة «الخوف من القصاص» التي تسكن في نفوسهم.

لكن سبينوزا يعرف أن كل قوانين الأرض وكل العنف الذي قد تنطوي عليه ويمكن أن تهدد به، عاجزة عن التحكم في انفعالات البشر ومشاعرهم، فلا يمكن لأحد أن يتصور دولة تسن قوانين من أجل تنظيم مشاعر مواطنيها مثل الحب والكراهية والخوف، إلا أن يكون هذا طموحاً لتلك الدول الدكتاتوريةِ الخرافية التي نقرأ عنها في روايات جورج أورويل. وفي مخيلة هذه الدول الأورويلية فقط يمكننا أن نتصور إمكانية قيام جهاز بوليسي قمعي يتوسّل بالإكراه من أجل خلق أناس كارهين أو محبين.

وقد سبق لسبينوزا نفسه أن اعتمد على هذه الحجة حين أراد التأصيل لحرية الفكر والتعبير في رسالته حول «اللاهوت والسياسة». وبحسب سبينوزا فإن الحكومات عاجزة عن «السيطرة على الأذهان»؛ لأن «ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر» (رسالة في اللاهوت والسياسة، ص445). وما ينطبق على الذهن ينطبق على المشاعر. إلا أن علينا أن نتفكّر ملياً في هذه المسألة، فإذا كان صحيحاً أن الدولة عاجزة عن التحكم في مشاعر مواطنيها، فإن الصحيح، كذلك، أنها ليست عاجزة عن توفير الظروف والمناخات التي تعمل على تنشيط هذه المشاعر أو تهدئتها. وإذا كان حديثنا منصباً على المشاعر الجماعية، فإنه ينبغي أن يكون واضحاً أن الناس لا تعبّر عن حبها أو كرهها في المجال العام لأنها، ببساطة، تحب أو تكره، لا، بل لأن ثمة ظروفاً ملائمة تشجّع على التعبير عن هذه المشاعر. وفي هذه المنطقة بالذات، منطقة الظروف الخارجية والمناخات العامة التي تعمل على تحفيز المشاعر الجماعية وتنشيطها وتشجيع حركة التعبير عنها، يمكن لتدخّل الدولة والقوانين أن يكون فاعلاً.

إلا أن هذا النوع من التقنين والرقابة لن يمنع خطابات الكراهية وتجلياتها من الظهور، بل ربما كان سبباً من أسباب انتشارها؛ لأن الثابت أن منع الخطاب يمنحه قابلية كبيرة للانتشار والذيوع. كما أن التقنين يصطدم بوجهة نظر الليبراليين وأصالة حرية التعبير عندهم، حيث ينتقد الليبراليون تلك القوانين التي تجرّم خطاب الكراهية لكونها تنتهك حرية التعبير التي يعدونها حقاً أساسياً ينبغي أن يصان حتى لو كان مزعجاً للآخرين. كما أن على الدولة أن تلتزم الحياد تجاه آراء الناس ومواقفهم ومشاعرهم وطرقهم الخاصة في التعبير عن كل ذلك. هذا هو الموقف الليبرالي المعروف حول هذه المسألة. وعلى الضد من هذا الموقف، هناك من يرى أن الحريات، بما فيها حرية التعبير، ليست حريات مطلقة، بل هي مرهونة بما يسميه مايكل ساندل بـ «الأهمية الأخلاقية للغايات التي تخدمها» (الليبرالية وحدود العدالة، ص23) وتنشدها هذه الحريات. وعلى هذا، فإن حرية التعبير ينبغي أن تكون مرهونة بالأهمية الأخلاقية الخيّرة للغايات التي تخدمها. وليس ثمة من «أهمية أخلاقية خيرة» تتحصّل من خطاب الكراهية وخطاب التحريض على الكراهية، ولهذا تفقد حرية التعبير عن هذه الكراهية المبرر الأخلاقي الذي يسوّغ حمايتها قانونياً من قبل الدولة.

قد يكون هذا نوعاً من الجدل النظري الذي تعجّ به أدبيات الفلسفة السياسية الليبرالية والجماعاتية، إلا أن هناك انتقاداً آخر يذهب فيه أصحابه إلى القول بأن القوانين التي تجرّم خطاب الكراهية العلنية قد تنجح في تحجيم خطاب الكراهية وتصفية المجال العام من التجليات والتعبيرات العلنية عن هذه الكراهيات والأحقاد، إلا أنها لن تقتلع الكراهية من نفوس أصحابها. وهذا يعني أن الكراهية ستبقى في النفوس، لكن أصحابها سيضطرون، خوفاً من العقاب، إلى كتمها في نفوسهم والتظاهر أمام الآخرين المكروهين بوجه ناعم ومسالم. وهو ما يجعل المجال العام قائماً على النفاق وأخلاقيات المجاملة الكاذبة. إلا أن الرد على هذا الانتقاد ليس عسيراً؛ لأن علينا أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، فالترجيح هنا ليس بين نوعين من الحياة العامة الأولى قائمة على الثقة والوئام، والثانية قائمة على النفاق والمجاملات، بل بين حياة عامة قائمة على الكراهيات والأحقاد والتحامل والتعصّب وما ينجرّ وراءها من توترات ونزاعات، وحياة عامة أخرى تخلو من كل ذلك لكنها قد تشهد انتعاشاً محتملاً لأخلاقيات المجاملة. وبهذه الطريقة تتضح الصورة ويصبح الترجيح أمراً ممكناً.

ثم إن هذا الانتفاد، في حال صحته، ينبغي أن ينسحب على كل القوانين التي تجرّم أفعالاً شريرة بحد ذاتها؛ لأن القوانين التي تجرّم القتل والسرقة والاغتصاب، على سبيل المثال، قد تخلق وضعية شبيهة بتلك الوضعية التي تخلقها قوانين تجريم الكراهية (النفاق والمجاملة). فلا أحد يدّعي أن هذه القوانين ستمنع حالات القتل والسرقة والاغتصاب، كما أنه لا أحد يدعّي أن هذه القوانين سوف تقتلع نزعات القتل والسرقة والاغتصاب من جذورها في نفوس البشر. فهل انتقد أحد هذه القوانين لكونها ستجبر المجرمين الميالين إلى القتل والسرقة والاغتصاب على التظاهر بخلاف ما هم عليه في حقيقتهم من ميل إلى القتل والسرقة والاغتصاب؟

يبقى أن نعترف بأن كلتا الحياتين العامتين السابقتين لا تضمنان، بالضرورة، ذلك الاحترام الذي يستحقه البشر، والذي يبقى، دائماً، ينتظر التحقق لا بقوة الدولة وقوانينها لأنها عاجزة عن ذلك، بل بقوة أخلاقيات المراعاة والاحترام المتبادل التي ينبغي أن تسود في المجال العام، وأن تتجذّر في نفوس البشر أنفسهم. وفي هذا السياق يكون من الضروري التذكير بأن الاحترام قيمة تبادلية، فمن يشعر بأن الآخر يحترمه لن يكون أمامه سوى الرد على هذا الاحترام باحترام مماثل؛ لأنه من الوقاحة أن يُقابل الاحترام بالكراهية والإهانة والتحقير. وعندئذٍ يمكن للاحترام أن يقاوم الكراهية ويقهرها.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2881 - الإثنين 26 يوليو 2010م الموافق 13 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 2:06 م

      Beautiful thoughts and to the core

      i believe that the article can be considered as one of your extraordinary ones as you have eventually squeezed your thoughts into an excellent conclusion that renders the community the best way of intellectual means of existence and living together regardless of one's thoughts and beliefs. Well done Doc. and keep up your good spirited attitude.

    • زائر 6 | 3:16 م

      الجنه والنار

      في رائي ان الجنه كما فى القرآن الكريم (عن اللغو معرضون ...يقولون سلاما)ولكن النار هو الوقاحه ان تقابل الايجابيات بالسلبيات والظلم ...لا امل في وجود للمثاليات في هذه الدنيا

    • زائر 5 | 10:14 ص

      مقال جميل ورصين

      مقال جميل ورصين تقرأه وتستمع وتستفيد

    • زائر 4 | 3:34 ص

      ليتها تعودددددددد

      لانك استطعت ان تتغلب على انفغالاتك ..... استرسلت بسلاسه في الحديث عن الحب والاحترام والكراهيه .....
      ثقافه افتقدناها ..... لذا تأخرناااااااااااااااااااااا

      وليتها تعوددددددددددد

    • زائر 3 | 1:06 ص

      عجبني المقال

      شكرا يا دكتور على جميع مقالاتك ونريد المزيد

    • زائر 2 | 10:05 م

      متى يطبع الكتاب

      مناقشة عميقه يا دكتور

    • زائر 1 | 9:18 م

      من أجمل ما قرأت ... شكرا دكتور نادر

      «لا نعاني من تعاسة مطلقة لا شفاء لها مثلما نعاني حين نفقد الشخص المحبوب أو نفقد حبّه» (قلق في الحضارة، ص31). وهذه واحدة من المفارقات الإنسانية العجيبة، فـ «لا توجد سعادة خارج الحب، والحب فانٍ» والحبيب لن يدوم لنا لا هو ولا حبه. إلا أن البشر ينخرطون في علاقات الحب دون أن يفكروا بهذه المفارقة، ولو فعلوا ذلك لانقلب الحب إلى شقاء وهوس مَرَضي لا شفاء له.

اقرأ ايضاً